فيلم "العودة إلى الجزائر".. ألم الحنين للضحيّة
معمر عطوي

في شريطه
الوثائقي Retour en
Algérie
الذي لا يتجاوز الساعة، يطرح المخرج الفرنسي Emmanuel
AUDRAIN
العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول ما يختلج في داخل جنود فرنسيين سابقين من
مشاعر وتحديات تجاه بلد استعمروه حين كانوا شباباً. يلتقي أودران مجموعة من
المحاربين القدامى مع أصدقاء لهم ضد الحرب، هم ناشطون في جمعية 4ACG في مدينة ألبي الفرنسية (تقع في مقاطعة تارن في
جنوب فرنسا).
تعويض بسيط
في لحظة مشاعر
جياشة يتحدث هؤلاء عن ضحاياهم وعن البلد الذي شاركوا في استعماره، متناولين نشاط
جمعيتهم " Anciens Appelés en Algérie et leurs Amis
Contre la Guerre
" التي تجمع المال وتعيد توزيعه على الجمعيات في الجزائر
كجزء من تعويض بسيط عن ارتكابات اكتشفوا بعد حين أنها كانت مؤلمة بحق الآخرين.
يعبّر هؤلاء
الرجال - يعيش بعضهم الآن على عتبة الشيخوخة- عن غصّة وألم داخلي وحنين في الوقت
نفسه للناس وللمكان، معتبرين أن حديثهم الآن بعد صمت طويل هو بمثابة تجديد وإعادة
ضخ دم الشباب في قلوبهم.
الفيلم الذي أنتج
العام الماضي 2017، وأعيد عرضه في معهد Sciences Po Aix بالتعاون مع الملتقى
السينمائي لحقوق الإنسان في مدينة إكس إن بروفنس les Rencontres
cinématographiques des droits de l’homme en Provence، مساء الثلاثاء، 6 فبراير 2018، شهد نقاشات
موسّعة بعد عرضه تحدث خلالها المخرج أودراين، وأستاذ التاريخ في معهد العلوم السياسية
والتر برويير- اوستيل والصحافي جان كلود إسكافيت الذين ردوا على مداخلات
واستفسارات الجمهور.
جروح الجلاد
المشاركون في
الفيلم الوثائقي هم شبان كانت أعمارهم لا تتجاوز العشرين حين اندلعت الحرب
الجزائرية(1 نوفمبر 1954- 19 مارس 1962) في الفترة الأخيرة من كولونيالية دامت 130 سنة.
هم مثل مليوني شاب فرنسي، فرضت عليهم خدمتهم العسكرية أن يكونوا في الجزائر في تلك
الفترة، حيث سادت أعمال القتل والاعتقال والتعذيب، فتسبّبت بجروح داخلية لبعض
جلادي الأمس قد تكون بالنسبة للبعض أقسى من جروح الضحية، إذ تحرّك لديهم الضمير
ولو متأخراً.
بعد 50 عاماً،
وفي وقت تقاعدهم، يخرج المقاتلون القدامى عن صمتهم الطويل، ليكشفوا ما ينحت في
دواخلهم من شعور بالندم والحسرة أو الشعور بالعار. يتكلمون فيخرج المكبوت من
دواخلهم ويفضح تفاصيلاً لم يلتقطها أرشيف التاريخ، ربما. يذهب هؤلاء الأشخاص الذين
لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين إلى المستعمرة السابقة "ألجيري" في لحظات
نوستالجية مشحونة بالوجع، فيتحدثون مع الناس وطلاب المدارس ويلتقون بأشخاص عرفوهم
كأعداء من قبل تحولوا الآن إلى أصدقاء، بعد أن لا يوقفها إلا العصيان والتجرؤ على
قول "لا".
على ما يظهر في
الشريط، حوّلت هذه القصة حياتهم رأساً على عقب. لكنهم اليوم يريدون المساهمة في
كتابة صفحة أخرى من الأخوية والتضامن.
صرخات السجناء
ريمي، جورج،
ستانيسلاس، جيل وغيرهم، اختاروا عدم الحفاظ لأنفسهم على راتب التقاعد الذي يكسبونه
لقاء مشاركتهم في الحرب، فجمعوه وخصصوه لتمويل "مشاريع التضامن ... في
الجزائر".

أما جيرار الذي
يعمل تقني حفريات فيؤكد أنه كان من الصعب عليه التحدث، قائلاً: "ما لم أكن
قادراً أبداً على قوله لزوجتي وأطفالي أو أقاربي، أخيرا يمكن مشاركته" مع
آخرين في هذا الفيلم.
بدوره ستانيسلاس
(اللاهوتي) عبّر عن هواجسه بالقول "فهمت- في منتصف الليل - أن الصرخات التي
سمعتها لم تكن صهاريج في المخيم ... ولكنها كانت صرخات صبي يبلغ من العمر 14 عاماً
تعرض للتعذيب بالكهرباء. الشاب (اسمه) بوتوت، وقد عرفته. هذا الحدث وضع علامة فارقة
في حياتي".
كذلك تحدث في
الشريط الوثائقي النقابي العمالي بيير، قائلاً "دعيت للإدلاء بشهادتي، لم
أستطع الاستمرار في نهاية كلمتي، كنت أشعر بالاختناق... لم يخرج الكثير من
المشاعر!.. صرخات التعذيب - لعدة أشهر - حقاً ما واجهناه أصعب".
جيل وهو أيضاً مزارع،
كان يعمل خلال الحرب سائقاً في المكتب الثاني- دائرة الاستخبارات- اليوم بناءً على
طلب أبنائه، أراد أن يكتب لكنه لم يستطع من دون مساعدة زوجته والرابطة.
تسامح الضحيّة
يصف الناشط
الإجتماعي جيرار "العودة إلى الجزائر" باللحظة الاستثنائية، مشيراً إلى
ترحيب الجزائريين بهم كضيوف وتسامحهم مع مستعمريهم بعد عقود مروّا خلالها على هذا
البلد كمحتلين، "مرحباً، كما يقولون. ليس لدى هؤلاء الناس كراهية مع أنهم
عانوا كثيراً". ينقل عن الجزائريين الذين التقاهم قولهم: "نحن لم نشعل
الحرب ضد الشعب الفرنسي، ولكن ضد الاستعمار". واليوم، يتوقعون أن تكون فرنسا
- على أعلى مستوى من الدولة - صادقة، "للإقرار بالوقائع"، على حد تعبيره.
المزارع جيرار،
خدم إبان الحرب في الجزائر، حيث أشار الى أنهم أفرغوا الجبال من الناس لتسهيل
السيطرة عليها، وتسببوا بتشريد مليون شخص من اصل 8 مليون مواطن. يقول خلال زيارته
الأخيرة للجزائر "عندما رأيت واحدة من هذه القرى، التي تم تدميرها جزئياً، خالجني
شعور سيء. لقد عادت (إلى ذاكرتي) تلك الحقائق. هؤلاء النساء، هؤلاء الأطفال، هؤلاء
الرجال المسنين، تم ترحيلهم إلى الشاحنة التي كنت أقودها".
يوضح المخرج إيمانويل
أودراين بأن أرملة الجنرال جاك دو بولاردي، سيمون شجعته في العام 2008، على الحضور
إلى الجمعية العامة للرابطة "4ACG"
، حيث اختار هؤلاء الرجال المسنين عدم الاحتفاظ بالمال لأنفسهم، كمقاتلين، فتبرعوا
بها للجمعيات الجزائرية.
"رواتبنا
للجزائريين"
منذ العام 2005،
أصبحت الرابطة جمعية وطنية انضم اليها ما يقرب من 500 عضواً، من بينهم 130 من
المجندين السابقين الذين دفع بعضهم راتب كامل، اضافة الى الأصدقاء والجهات
المانحة، ونظمت الرابطة أكثر من 10 رحلات إلى الجزائر، حيث توزع هناك هذه الأموال
التي تبلغ نحو 80 الف يورو كل العام، على المراكز الاجتماعية في باب الواد ولدعم
التعليم في مستغانم، ومساعدة المعوقين في قسنطينة وتيزي أوزو...
يقول المخرج كاتب
السيناريو "ما يصادفني في هذا اللقاء هو اللحظة التي يقف فيها الأعضاء الجدد
في الرابطة، كل منهم يستحضر مسيرته الجزائرية. رجل كبير يقول انه لا يحتاج الى
الميكروفون، لكنه لا يستطيع ان ينهي قصته، صوته مكسور.
بالنسبة
للكثيرين، هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها هؤلاء المحاربين القدامى. تظهر بعض
الدموع في عيونهم، ومناخات عاطفية مشحونة بالحسرة. ربما يصح وصف هذه اللحظات
بالاستثنائية حيث تتحول الحرب إلى نوستالجيا للوجع والندم ومحاولات التعويض بما
أمكن.
تعليقات