ألمانيا الحائرة بين خطرين في المدى الأوراسي

معمر عطوي

لم تكن أزمة ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى روسيا في شهر آذار/ مارس الماضي، مجرد أزمة عابرة بالنسبة إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، التي تُعتبر أقوى الدول اقتصادياً في الاتحاد الأوروبي، وهي إلى جانب فرنسا أسّ منظومة “القارة العجوز” السياسية المؤلفة من 28 دولة، وكذلك هي صلب منطقة اليورو.
فما هو البعد التاريخي للأزمة تلك، وتأثيرها على الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، وربما عسكرياً؟




لعل الأزمة المتولّدة عن مصادر الطاقة وتوزيعها وإشكالية إمداد الدول الأوروبية بالغاز الروسي، أو البحث عن مصادر طاقة أخرى، هي أحد أهم محاور النزاع الجيو- سياسي بين روسيا، والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً ألمانيا، التي تضمّ نحو 84 مليون نسمة.
 بيد أن البعد التاريخي للمسألة يضع الأزمة على محكّ الصورة الجديدة للمدى الأوراسي ودرجة تأثيرها على استقرار الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، وربما عسكرياً، بعدما ضُمّ القرم إلى روسيا، حيث بدأ الجانب الغربي يشعر بالقلق.
 يبدو أن هذا النزاع أحيا لدى الألمان مناخات إرهاصات الحرب العالمية الأولى، إذ سلّطت مجلة “Der Spiegel”، في عددها الصادر في 16 آذار/ مارس الفائت، الضوء على تاريخانية التجاذب الروسي – الألماني الفرنسي.
 تساءلت الصحيفة عن أوجه التشابه بين أزمة 1914 وبين أزمة ربيع العام 2014، أي بعد 100 عام بالتحديد. تلك الأزمة التي تولّدت عن قتل ولي عهد النمسا، فرانسوا فرديناند، وزوجته في أثناء زيارة إلى عاصمة البوسنة سراييفو، من قبل جماعة صربية متطرّفة.
 تلا الحادث يومها إنذار وجّهته الحكومة النمساوية، مدعومة من ألمانيا وفرنسا، إلى بلغراد، بينما وقفت موسكو إلى جانب صربيا بالتحريض ضدّ برلين وباريس. وقرّرت النمسا حينها، التحرك ضدّ صربيا، لتشتعل الحرب العالمية الأولى في آب/ أغسطس 1914، والتي شاركت فيها كلّ من فرنسا وبريطانيا.
 ورأت “در شبيغل” أن شبح الحرب هو تذكار مفيد لما قد يحدث إذا فشلت المحادثات وأصبح الوصول إلى حلّ وسط أمراً مستحيلاً، معتبرةً أن طبيعة التحالفات اليوم تحمل القليل من الشبه للظروف الجيوسياسية لعام 1914.

كما أشارت المجلة الألمانية إلى أن حرب القرم، التي اشتعلت في الفترة ما بين 1853-1865 قد تكون مثالاً أنسب، إذ وقف يومها تحالف غربي لصدّ طموحات الإمبراطورية الروسية، فبعثت موسكو قواتها للتدخل بالقرم، بحجة حماية المسيحيين الموجودين تحت إمرة الحكم العثماني آنذاك.

الزعامة الألمانية 
في أيّ حال، يبدو أن الأزمة الأوكرانية عزّزت زعامة ألمانيا في “القارة العجوز”، حيث تشكّل برلين القوة الاقتصادية الأضخم، والمتحدث الأبرز في منطقة اليورو، بينما تبدو المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، المحاور الأوروبي الأساسي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحسب العديد من الخبراء.
 فموقف برلين اليوم بالنسبة إلى ما يمكن أن تقرّره حول مسألة استيراد الغاز من روسيا أو اللجوء إلى مصادر أخرى، هو حجر الرحى الذي ستدور حوله باقي دول أوروبا الغربية.

ويبدو أن شهر عسل اقتصادياً بين الصين وألمانيا قد بدأت بوادره تظهر من خلال نتائج التبادلات التجارية بين البلدين، والتي وصلت إلى 180 مليار دولار في العامين السابقين، بينما تحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ، أواخر شهر آذار/ مارس، في أثناء زيارته برلين، عن سعي لوصول قيمة التبادلات التجارية مع ألمانيا إلى 280 مليار دولار. إنه تطوّر اقتصادي يصبّ في مصلحة برلين، ومن خلفها الاتّحاد الأوروبي، لجهة ضمان حياد بكين في أيّ صراع مع موسكو. ولاسيّما أن مواقف شي جين بينغ لا تزال حيادية إزاء الأزمة الأوكرانية.
 أما موضوع الغاز، فممّا لا شك فيه أنه بات يشكّل هاجساً مقلقاً لألمانيا، خصوصاً بعد رفع روسيا سعره لأوكرانيا حوالى ضعفين خلال أسبوع واحد. فعلى ما يبدو أن هذه المسألة أحدثت شرخاً في المواقف بين طرفي الائتلاف الحاكم في برلين: الاتحاد المسيحي الديموقراطي الذي تقوده ميركل، والحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يقوده وزير الخارجية فرانك- فالتر شتاينماير.
 فميركل التي حذّرت روسيا مراراً من تشديد العقوبات الاقتصادية عليها، على خلفية ضمّ القرم، تسعى إلى إيجاد بديل لمصادر الطاقة الروسية، حيث تستورد برلين من موسكو عبر الأراضي الأوكرانية 35 % من احتياجاتها من الغاز. وإذ تنسجم تطلعات المستشارة مع زملائها من قادة الاتحاد في هذه القضية باللجوء إلى أسواق أخرى مثل ليبيا أو الجزائر، وتطوير وسائل الطاقة البديلة، يرى وزير الاقتصاد والطاقة زيغمار غابرييل (الحزب الاشتراكي) أنه لا يوجد بديل منطقي للغاز الروسي، ويستبعد أن توقف روسيا الإمدادات. وفي موقفه شيء من الصواب؛ إذ إن روسيا في حال أوقفت ضخّ الغاز إلى ألمانيا، لن يكون ذلك في مصلحتها.

وفي منتدى نظّمته صحيفة “Neue Osnabrücker” شهر نيسان/ إبريل الماضي، حول الطاقة، أكّد الوزير غابرييل أن كثيرين يتصرفون كما لو أن هناك بديلاً من الغاز الآتي من روسيا، لكن الواقع غير ذلك.

ولعل الانتقاد الذي وجّهه رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك إلى برلين بسبب “ارتهانها” للغاز الروسي، والذي “يشكل تهديداً لسيادة أوروبا”، بحسب رأيه، يؤكد تلك السياسة الألمانية الحائرة في موضوع أوكرانيا والغاز.

لذلك تلعب برلين اليوم دوراً يجسّد أهميتها الاستراتيجية أوروبياً وعالمياً، ويتماهى مع سياسة الوزير شتاينماير، الذي أكد في 29 يناير/ كانون الثاني 2014 داخل البرلمان الألماني (بوندستاغ)، رغبة وزارته في تعزيز حضورها في المناطق التي تمرّ بأزمات سياسية، مشيراً بالخصوص إلى أوكرانيا، التي شهدت وقتها تظاهرات مناهضة للحكومة ودعوة لتحويل وجهة سياسة البلاد من موسكو نحو بروكسل.
 ويستند وزير الخارجية الألماني في توجّه بلاده نحو تعزيز سياستها الخارجية في مناطق النزاع في العالم إلى كون “ألمانيا تعتبر أغنى دولة في أوروبا من الناحية الديموغرافية، والأقوى من الناحية الاقتصادية”، معتبراً أنه “إذا بقي بلد كألمانيا بعيداً عن النزاعات التي تقع في تلك الدول، فإنه لن يتمّ التوصل إلى حلّ لتلك الصراعات، لأنه ليس ثمّة اقتراحات ملائمة”.
المستشارة بدورها باركت هذه السياسة عبر جعل إحدى الركائز الأساسية لسياستها “تحمّل ألمانيا لمسؤوليتها تجاه أوروبا والعالم”، موضحةً أن عدم القيام بذلك “سيضرّ بمصالح ألمانيا ومصالح شركائها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى قيم ألمانيا”، حسبما نقلت عنها “Deutsche Welle”.

الأهميّات الأربع
على الجانب الأوكراني، يرى رئيس الوزراء أرتسيني ياتسنيوك، أن هناك “أربع أهميّات” للتعاون بين برلين وكييف؛ “الأولى تتعلق بأمن الطاقة. نحن بحاجة لشحنات الغاز العائد من دول الاتحاد الأوروبي، لضمان أمن الطاقة في أوكرانيا. والثانية، تتعلق بالتعاون في مكافحتنا للفساد في أوكرانيا. والثالثة تتعلق بالحديث عن احتكار الاقتصاد الأوكراني. أما الرابعة فتتصل بالتعاون العسكري”.
 وتُعتبر برلين الشريك التجاري الأهم لكييف، إذ تستثمر في أوكرانيا نحو 6.6 مليار دولار أميركي، بما يمثل 16.5 من نسبة استثماراتها الخارجية، حيث تحتل قبرص المرتبة الأولى وأوكرانيا المرتبة الثانية. وتنشط في أوكرانيا نحو 400 شركة ألمانية. وتتوقع الدوائر الاقتصادية في ألمانيا نموّاً في الأسواق يصل إلى 7 في المائة في العام حتى سنة 2025، ومعدلات نموّ مماثلة لصناعة السيارات. وقد تصبح السوق الأوكرانية، بعدد سكانها الـ 45 مليوناً، السوق المحتملة الأكبر للبضائع الألمانية في أوروبا.

من ناحيته كتب الصحافي هنريك ميلر، في صحيفة “Spiegelonline” في 16 آذار/ مارس، مقالاً بعنوان “سلاح ألمانيا الاقتصادي في أزمة القرم”، يقول فيه “إن التبادل مع أنظمة مشكوك فيها هو جزء لا يتجزأ من نمط الأعمال الألماني”.

ويبيّن أن حجم الصادرات الألمانية إلى روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق (عدا البلطيق)، يصل إلى 45 مليار يورو سنوياً. أيضاً الاستيراد من هناك يتجاوز الـ 50 مليار يورو، مشيراً إلى أن روسيا تشكّل شريكاً اقتصادياً لألمانيا أكثر أهمية من دول ثلاث اقتصادية كبرى معاً: اليابان، الهند، البرازيل.

يخلص الكاتب ميلر إلى أن التهديد بتقييد حركة الواردات، أو منع الصادرات الألمانية، يؤكّد على نحو فعّال المطالب السياسية.
ومع أن المستشارة تبدو متحمّسة لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، إلاّ ان هذا النوع من العقوبات من ناحية أخرى يعيقها. وهذا ما هو حاصل في أزمة القرم. لذلك تتباطأ برلين في الاستجابة لمطالب واشنطن بفرض هذه العقوبات، وتقف حائرة بين خطرين اليوم، الأول يتعلق بمصالحها في المجال الأوراسي، والخسائر الاقتصادية التي يمكن أن تسبّبها لها الأزمة، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية والتهديد على مستوى مصادر الطاقة. والآخر يتعلق بتداعيات محتملة لأزمة القرم في ضوء الاستراتيجية الروسية الجديدة التي قد تسهم في زعزعة الاستقرار في عموم أوروبا، حسبما يرى وزير خارجيتها.

لقد حذّر شتاينماير من “محاولة تغيير خارطة أوروبا”، معتبراً أن “شهية روسيا إذا شملت مناطق أخرى ما بعد القرم، فإن الاتحاد الأوروبي سيتخذ “إجراءات حاسمة، حتى لو كانت تلحق ضرراً اقتصادياً بنا”، حسبما نقلت عنه صحيفة “Welt am Sonntag”.

هذا قد يقود إلى أن السياسة الألمانية إزاء أزمة القرم، قد عبّر عنها شتاينماير صراحة بأنها “تتسم بالحذر والتفكير بعواقب كل خطوة من أجل منع تدهور الموقف أكثر”.

*كاتب وإعلامي- لبنان

المصدر : (أفق) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"شريعة المفاسد".. محاكمة من خارج حقل الميتافزيقيا

عطوي يتحرّر في «شريعة المفاسد»

هل "ستحرّر" إيران فلسطين؟!