إيران والعالم العربي: طموحات السيطرة من اليمن حتى فلسطين

معمر عطوي


المقدمة: بعد نحو أربعين عاماً من الإستبداد والقمع ودغدغة المشاعر الدينية والقومية، أصبح من الطبيعي أن يواجه النظام الإسلامي في إيران مواطنين متظاهرين في الشوارع احتجاجاً على سياساته الخارجية، خصوصاً تجاه العالم العربي، والتي تنعكس سلباً على الوضع الداخلي الإيراني، حيث تذهب المليارات من أموال الشعب الإيراني إلى منظمات مسلحة ومشاريع تؤسس لخلق الفتن والتوترات تحت شعارات مثل "تصدير الثورة" و"مقاومة الإستكبار والصهيونية"، بيد أن مضمونه هو تصدير التشيّع الصفوي إلى العالم العربي ذا الغالبية السنية تمهيداً للسيطرة الكاملة عليه بما يحمله هذا العالم من رمزية دينية وتاريخية وما يمتلكه من ثروات إحفورية وطاقات بشرية.



الحلقة الأولى:

حكم الملالي وإحياء الإمبراطورية الفارسية بغطاء مذهبي

مما لا شك فيه أن الحراك الشعبي الأخير في إيران كان بمثابة شهادة شاهد من أهله بأن ما فعله النظام الإيراني في الوطن العربي لم يكن أبداً متماهياً مع شعار "الوحدة الإسلامية"، بل كان عملية استنزاف كبيرة لثروات إيران بشكل مُنظم، ولأهداف لا تفيد الشعب الإيراني بشكل مباشر، إنما تفيد أصحاب الطموحات السياسية الكبرى والمذهبية الذين أرادوا إعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية بروح شيعية صفوية وبذريعة التمهيد لظهور المهدي.
لذلك بدا مُهيمِناً على هذه الاحتجاجات الكثيفة التي فاجئت قوى السلطة منذ الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2017، السؤال المُحِق: "أين تذهب أموالنا؟". وبرزت رمزية إحراق صور الجنرال قاسم سليماني مسؤول "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" كدلالة على رفض ما تبذره إيران من أموال على المنظمات التي يرعاها هذا الجنرال الذي أصبح مناطاً به إدارة الحروب وزرع القلاقل والفتن في الوطن العربي بتكاليف مالية وبشرية باهظة، لدرجة أنه بات يفتخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
بدأ النظام الإيراني بعد وصول الملالي الى السطة في إيران في العام 1979 ورحيل الشاه محمد رضا بهلوي، بنشر العقيدة الشيعية الإثني عشرية الصفوية، مستخدماً قضية فلسطين كحجة لحشد كل الطاقات والإمكانيات البشرية العربية والإسلامية تحت رايته. ولجأ الملالي في ذلك إلى روايات وأساطير موجودة في كتب أهل السنة والشيعة حول علامات الساعة ومقدمات ظهور المهدي لتفسيرها على أنها تتحدث عن الثورة الإيرانية وزعمائها مثل الحديث الذي يُنسب الى النبي محمد: "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فأتوها ولو حبواً، فإن فيها خليفة الله المهدي".
خورمشهر

الحرب مع العراق
بغض النظر عمن أعلن قرار الحرب بين إيران والعراق (1980-1988) ومن أطلق الرصاصة الأولى، فإن هذه الحرب المُدمّرة كان يمكن إيقافها لولا رفض طهران قراراً دولياً لوقف النار في العام 1982.
لقد كانت الحرب التي أسمتها إيران "الدفاع المقدس" بداية غيث الأطماع الفارسية بالعالم العربي، خصوصاً أن العراق يشكل خاصرة مهمة لإيران تضم خزاناً ديموغرافياً شيعياً في الجنوب وأجزاءً من بغداد قد يساهم في نشر مخططات الولي الفقيه عبر العالم العربي. ولعبت هوية النظام العراقي الذي يسيطر عليه حزب "البعث" ذو التوجه القومي العربي، دوراً في إعادة إحياء حرب القادسية بين المسلمين العرب والفرس (العام 636) لكن هذه المرة كان ظاهرها قومي وباطنها مذهبي فنفخت في روح الشعب الإيراني أمجاد الدولة الصفوية (في سنة 1501 تم اتخاذ المذهب الشيعي الإثني عشري والذي يعرف أيضاً بالإمامي مذهبًا رسميًا للدولة الإيرانية في عهد الصفوييين).

الخميني يتجرع سُمّ السلام
ظهرت سوءة الخميني في بيانه الذي أعرب فيه عن تردده واستيائه العميق من قبول قرار مجلس الأمن رقم 598 الداعي إلى وقف الحرب مع العراق في 18 تموز 1988، قائلاً: "ويلٌ لي لأني مازلت على قيد الحياة لأتجرّع كأس السُم بموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار". السؤال المُحيّر هنا، كيف يمكن لرجل دين يدعو إلى الوحدة الإسلامية والتكاتف من أجل مقارعة "القوى الاستكبارية" (بحسب المصطلحات التي جاءت بها ثورته في وصف الولايات المتحدة ودول الغرب)، والحديث عن التمهيد لدولة المهدي التي "تملأ الأرض قسطاً وعدلاً" أن يحزن على وقف آلة القتل والتدمير التي قتلت أكثر من مليون شخص فضلاً عن مئات آلاف الجرحى والمعطوبين والأسرى والمشردين؟؟!!. على كل حال من يقرأ فتاوى هذه "المرجعية الدينية العظمى" كما هو لقبه في الحوزة الدينية، لا يستغرب تصريحه السادي، سيما أنه من محللي الزواج والتمتع بالبنات القاصرات والأطفال (كما ورد في كتابه الفقهي "تحرير الوسيلة"). على كل ما لم تستطع إيران – الخميني الحصول عليه في عهد الرئيس الراحل صدام حسين حصلت على أكثر منه، فيما بعد، بالتعاون مع الولايات المتحدة التي كانت تنعتها بلقب "الشيطان الأكبر".
بعد الحرب المُدمّرة أتت قضية استيلاء طهران على أسراب من الطائرات العراقية بلغ عددها 146 طائرة مدنية وعسكرية، كانت بغداد أودعتها لدى أصحاب العمائم لحمايتها خلال حرب الخليج الثانية 1991. بيد أن "الجمهورية الإسلامية" أعلنت بعد نهاية الحرب في تموز/ يوليو 1992 أنها ستصادر الطائرات العراقية واعتبارها جزءاً من تعويضات حرب الخليج.
المفارقة المثيرة للدهشة أن بعض هذه الطائرات العسكرية عادت إلى العراق في العام 2014 في ظروف غامضة ضمن صفقة روسية عراقية لبيع بغداد طائرات حربية. وانكشف أن طهران حين احتفظت بالطائرات كانت برغبة أميركية لضمان بقاء هذا السلاح بعيداً عن يد نظام حسين حتى انتهاء الحرب، وبأن إعادتها كان وفق صفقة دخل فيها الروس من أجل تزويد بغداد بسلاح جوي لمحاربة "داعش". بمعنى أن إيران حين يتعلق الأمر بحقوق إسلامية أو عربية فهي تماطل وتنافق، وحين يكون الأمر منوطاً بقوة كبرى فإن كل شعاراتها عن مقارعة "شياطين الشرق والغرب" تسقط ليظهر الخط الأحمر الدولي الذي يبقى أقوى من عنجهية "الولي الفقيه" وهواماته الغيبية.

مخلّفات قورش
تعود الأطماع التاريخية ببلاد الرافدين إلى العصر البابلي، حيث هاجم الفرس للمرة الأولى بلاد وادي الرافدين واحتلوا مدينة بابل في العام 539 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الفارسي قورش، واستمرت هذه الأطماع الفارسية في عهد الصفويّين الذي بدأ في العام 510، بنفس الذهنية، إذ عملت إيران على تشييع العراقيين السنة المقيمين في المناطق الجنوبية العراقية حيث تسود علاقات نسب ومصاهرة مع الايرانيين.
لما كان حزب البعث العراقي بقيادة صدام حسين شوكة في حلق الإيرانيين الذين أرادوا مراراً مضغ هذا البلد الغني بالنفط وجعله ممراً لتحقيق حلمهم بإقامة هلال شيعي يصل إيران بلبنان عبر العراق وسوريا، لجأ الإيرانيون إلى دعم تيارات شيعية معارضة لصدام مثل حزب الدعوة و"فيلق بدر" التابع للمجلس الأعلى بقيادة آل الحكيم. وكانت تحدث الكثير من عمليات التفجير والقتل والاشتباكات بين القوات العراقية وهذه المجموعات، في حين كان جنود صدام يردون عليها بالحديد والنار بحسب ما اشتهر حكمه القمعي. لكن الإيرانيين وحين أصبح نظام صدام هدفاً للأميركيين فضل الملالي تسهيل عملية الغزو حتى ولو كان على أيدي جيوش "الشيطان الأكبر" فبالنسبة للفرس ليس غريباً عليهم التحالف مع "أعداء الأمة" إذا كان ذلك يؤمّن لهم أهدافهم (كانت للإيرانيين تجربة مشابهة خلال الحرب الإيرانية العراقية أو ما عُرف يومها بـ"إيران غيت". الأسلحة كانت أميركية وتم تسليمها للحكومة الإسلامية بوساطة إسرائيلية، على الرغم من قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران. وذلك لقاء إطلاق سراح بعض الأميركيين المخطوفين في لبنان على أيدي جماعات تابعة للنظام الإيراني).
كما ساعد الإيرانيون السلاح الجوي الأميركي بفتح أجوائهم له خلال غزو جارتهم أفغانستان، وقدموا لواشنطن كل مساعدة بغية التخلص من نظام "حركة طالبان" المتشددة سنياً، فعلوا الأمر نفسه بالتعاون مع تنظيمات شيعية موالية للولي الفقيه وكانت تتخذ من طهران مقراً لها خلال حكم البعث. لم يسلم من هذا التحالف الإيراني- الأميركي سوى تنظيمات شيعية استولت على الحكم في العراق وبدأت تمارس أبشع أنواع الاستبداد بحق العراقيين تنفيذاً لشعار "يا لثارات الحسين" الذي يحمل في مضمونه كل معاني التخلف القبلي العشائري، إذ يتم الانتقام من غير صاحب الجريمة بحجة القرابة. ففي المنطق لا يمكن الحديث عن ثأر لجريمة حدثت  قبل أكثر من 1400 سنة.
بحسب وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير نشرته في تشرين اول/ أكتوبر العام 2016 "ان الجمهورية الاسلامية الإيرانية تمول وتسلح أكثر من 80 ألف من عناصر الحشد الشعبي في العراق". والحشد الشعبي يشبه بممارساته الإرهابية وشعاراته المذهبية تنظيم "داعش" تماماً. فقد مارس هؤلاء سياسات التهجير القسري لسكان من السنة في العراق واعتقلوا وقتلوا مئات الأشخاص.


الحلقة الثانية


الجزر الإماراتية وحكم الصلاة في الأرض المغصوبة
من المعروف أن الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) التي استولت عليها إيران في عهد الشاه العام 1971 بعد انسحاب بريطانيا منها، هي ملكية عربية تعود للشيوخ القواسم وأصبحت في ما بعد من قبائل دولة الإمارات العربية المتحدة. ما يؤكد ذلك تاريخياً أنه في العام 1930 رفض حاكما رأس الخيمة والشارقة طلباً من الحكومة الفارسية بواسطة بريطانيا شراء جزيرتي طنب.

لكن إيران- الخميني وبالتزامن مع رفعها شعار "الوحدة الإسلامية" أبقت سيطرتها على الجزر رغم مطالبات أبو ظبي المستمرة بإخلائها. كما فعلت تماماً مع إقليم الأحواز العربي الذي أجرت فيه تغييراً ديموغرافياً لصالح الوجود الفارسي فنقلت عرباً الى داخل إيران واستبدلتهم بفرس وقوميات إيرانية أخرى أسكنتها في هذا الإقليم المعروف بعربستان، حيث منعت فيه تدريس اللغة العربية وطمست كل معلم عربي واضطهدت كل حراك يطالب بحقوق العرب الثقافية في الإقليم.

 المفارقة أن الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني -الذي اشتهر بأنه شخصية سياسية براغماتية منفتحة- هو من استكمل في العام 1992 احتلال كامل جزيرة أبو موسى. لقد أسست حكومة رفسنجاني مطاراً في جزيرة أبو موسى، وقامت بتسيير خط جوي بينها وبين مدينة بندر عباس الإيرانية.
حديثاً في العام 2012 أعلنت إيران إقامة محافظة جديدة تدعى "خليج فارس" وجعلت جزيرة أبو موسى عاصمتها، بعد أن كانت تابعة لإقليم "هرمز غان" وعاصمته بندر عباس، بينما سمحت لشركات سياحية إيرانية بتنظيم رحلات إلى الجزر الثلاث.
بعض "مراجع التقليد العظام" كما يسمونهم في الفقه الشيعي، يشدد على عدم جواز إقامة الصلاة على أرض مغصوبة، لكن هذا الذي يعمل في خدمة السلطان، حين يتعلق الأمر بالمصالح الحيوية للإمبراطورية الفارسية، يضرب بأحكام الشريعة بعرض الحائط وله تبريراته وفتاواه الجاهزة، مثل تحويل السرقات إلى غنائم حرب والنساء إلى سبايا بذريعة التخوين والعمالة للأجنبي "المُستكِبر".
ففي أول تصريح رسمي حول قضية الجزر الإماراتية بعد سيطرة الملالي على الحكم في العام 1980، قال الرئيس الإيراني أنذاك أبو الحسن بني صدر إن دول الخليج "ترتبط بالولايات المتحدة وليست مستقلة.. ولا ننوي إعادة الجزر الثلاث لأنها ممر إستراتيجي سيكون في يد واشنطن". وفي العام 1981 أبلغت الحكومة الإيرانية نظيرتها السورية بأن الانسحاب الإيراني من الجزر "سيفتح الباب أمام التدخل الأميركي لاتخاذ قواعد ثابتة فيها".
لكن في الواقع هناك مصلحة اقتصادية وجيو- ستراتيجية لإيران في احتلال الجزر الغنية بالنفط والمعادن والأكسيد الأحمر، فضلاً عن موقعها الجيوستراتيجي فيما يتعلق بالإشراف على حركة المرور الملاحية في الخليج العربي.
زبدة القول هي أن العلاقة مع الوطن العربي التي ينبغي بحسب أدبيات قادة "الثورة الإسلامية" أن يكون المجال الحيوي لتحقيق مشروعها حول الوحدة الإسلامية كانت أسوأ من مرحلة الشاه. في تلك المرحلة كانت طهران مستعدة للتحكيم الدولي أما بعد قيام نظام مذهبي فيها فقد أعلنت رفض ذلك. وزعم رئيس مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) علي أكبر ناطق نوري في العام 1992، أن الجزر "أراض إيرانية بموجب اتفاق مُوقّع مع الإنغليز"، فيما أكدت لندن أن هذا "الاتفاق مزعوم ولا وجود له على الإطلاق".







البحرين محافظة إيرانية  
كانت احتجاجات البحرين دائماً تعبّر عن شريحة واسعة من المواطنين المطالبين بحقوق سياسية واجتماعية غير مذهبية في إطار منظمات وأحزاب بعضها يساري وعلماني وقومي وبعضها ديني، لكن دخول إيران على الخط واستغلال الأطراف الشيعية أحرق هذه الحركة الإحتجاجية وحولها إلى ورقة تتجاذبها طهران من جهة مع المنامة والرياض. وبالتالي كان لتدخل إيران في شؤون البحرين وتحويل جزء من الحراك إلى حراك مسلّح، اعتداءً مباشراً على شعب البحرين، لا على نظامه الذي استفاد من هذا التدخل ليبرر القضاء على هذه الإحتجاجات بدعم خليجي مباشر وميداني.
التدخل الإيراني في البحرين ليس مفاجئاً ولا غريباً، إذ أن الجمهورية الفارسية تعتبر أن الغالبية الشيعية التي تسكن المملكة هي من أصل فارسي، وهي التي تشكل هوية هذا البلد الصغير االذي يعتبره بعض أقطاب النظام الإسلامي محافظة إيرانية. لعل أبرز التصريحات التي تؤكد وجود مخطط بعيد المدى لضم البحرين إلى إيران هو ما ذكره حسين شريعتمداري مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، المشرف العام على مؤسسة "كيهان الصحافية" إذ ذكر في الصحيفة المتشددة في تموز/ يوليو 2007 أن "هناك حساباً منفصلاً للبحرين بين دول مجلس التعاون في الخليج الفارسي، لأن البحرين جزء من الأراضي الإيرانية وقد انفصلت عن إيران إثر تسوية غير قانونية بين الشاه المعدوم وحكومتي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا". والحديث عن البحرين في الأدبيات الإيرانية لا يعني فقط مملكة البحرين بصورتها الحالية، إنما يتجاوزه الى القطيف والأحساء وصولاً إلى الكويت شمالاً. هذا مع العلم أن لسان حال التيارات المعارضة الشيعية الأساسية في البحرين يؤكد أن هذه الاحتجاجات لا تخرج عن إطار الانتماء الوطني لأصحابها.
ولعل ما كشفه نائب قائد "الحرس الثوري" الإيراني اللواء حسين سلامي في تصريحات لوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "إرنا" في ديسمبر/ كانون الثاني من العام 2016 ، يؤكد نية إيران تجاه المملكة الخليجية الصغيرة إذ قال إن "الانتصار في حلب مقدمة لتحرير البحرين"، مشيراً إلى أن مشروع إيران التوسعي سيمتد إلى البحرين واليمن والموصل بعد سقوط مدينة حلب السورية بأيدي الإيرانيين ومرتزقتهم.  


الكويت وتصدير الثورة
حصلت العديد من عمليات الاعتداء على سيادة الكويت وأمنه عبر خلايا تابعة أو مدعومة من جهاز "إطلاعات" الاستخباراتي الإيراني للعمليات الخارجية، وثمة محاولات خطف طائرات كويتية كان وراءها الإيرانيون. استغلّت طهران وجود بعض الشيعة المُتحمّسين المصدقين لأساطير "الولاء لإمام الأمة" و"التمهيد لظهور المهدي" أو أولئك المفتونين بالمال والسلاح على طريقة المرتزقة، لزرع شبكات تجسس وأخرى جاهزة للقيام بعمليات أمنية ضد الإمارة الكويتية التي وقفت مع العراق خلال حربه ضد جمهورية الملالي على مدى ثمان سنوات.
ربما كانت شهادة الأمين العام لـ"المجلس الإسلامي العربي في لبنان" محمد علي الحسيني، تحمل من المصداقية أكثر من غيرها كونه خبر الإيرانيين عن قرب. إذ قدم رجل الدين الشيعي المعارض لنظرية ولاية الفقيه، شهادة تفضح مخططات إيران في الكويت والدول العربية، فخلال حديث الى جريدة "الوطن" البحرينية في 17-11-2009، كشف الحسيني بأن إيران بدأت منذ العام (2008)في التركيز الإستخباراتي على الكويت بهدف تصدير الثورة وأن "هناك عدة وسائل وأنشطة تقوم بها إيران للتغطية على نشاط الاستخبارات المدعوم من كبار الملالي وجهاز الدولة في طهران، لافتاً النظر إلى أن السفارة الإيرانية تأتي على رأس الأجهزة الإستخباراتية حيث تعمل عناصر الإستخبارات في الكويت تحت غطاء ديبلوماسي لكي يسهل تخليصهم عندما يتم كشفهم من قبل الأجهزة الكويتية.
أوضح الحسيني أن "هناك قسماً خاصاً في مكتب خامنئي مسؤول عن العلاقات مع الدول العربية حيث يتم اتخاذ القرارات والخطط الخاصة بالتجسس تمهيداً لتنفيذ المخططات الإيرانية، وتتم كافة نشاطات تصدير الثورة بإشراف وسيطرة خامنئي كما يرسل المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وقوة فيلق القدس الإيرانية وسائر الأجهزة النشطة في الدول العربية تقاريرها إلى خامنئي مباشرة. وتعمل إيران تحت غطاء منظمة الثقافة والاتصالات الإسلامية وهي منظمة ترتبط مباشرة بوزير الثقافة وتقوم بتوزيع كتب ومواد دعائية وأشرطة بهدف نشر المذهب الشيعي في الدول العربية وتقوم المنظمة باختيار الأشخاص واستقطابهم وتجنيدهم تحت غطاء إقامة مراكز ثقافية ويتم إرسالهم إلى معسكرات قوة فيلق القدس للدخول في دورات تدريبية (عسكرية). كما يقوم القسم الثقافي بإرسال فتاوى الخميني ومراجع الحوزة العلمية في مدينتي قم ومشهد إلى رجال الدين الشيعة في الدول الأخرى بهدف التأثير عليهم وتجنيدهم لصالح أهداف النظام الإيراني". كشف الحسيني ان "مجمع آل البيت" هو أحد التنظيمات الخطرة التابعة للنظام الإيراني والذي يتركز عمله على التجمعات الشيعية في الدول الإسلامية.. وقد انبثق عنه عدد من الجمعيات الدينية في مختلف المدن الإسلامية لتصدير الثورة الإيرانية كما يتولى أيضاً مسؤولية التنسيق بين الأحزاب والحركات الإرهابية والعاملة مع النظام الإيراني في منطقة الشرق الأوسط".

  
  

الحلقة الثالثة
مكة كانت البدء: دماء في الحرم بشعارات إيرانية
كانت السعودية منذ اليوم الأول لوصول الملالي الشيعة إلى الحكم في إيران مادة إعلامية دسمة في البروباغندا الإيرانية المعادية لكل قوة في المنطقة يمكن أن تحارب امتداداتها المذهبية، بحكم أن المملكة أيضاً لها أيديولوجيتها ومؤسستها السلفيّة الوهابيّة التي تتنافس أو تتصارع مع مشروع التشيّع في أكثر من بلد عربي وحتى غير عربي. لذلك بدأت طهران حربها الاستباقية ضد الرياض تحت شعار محاربة الملكية الوراثية، ومحاربة "عملاء أميركا" وما الى ذلك من شعارات تهدف إلى حشد الشعوب العربية ضد آل سعود. 
ولطالما أعلنت مصادر إيرانية ووسائل إعلامية تابعة للنظام والمحافظين المتشددين عن مطالب بجعل مكة والمدينة تحت وصاية إسلامية مشتركة، متذرعة في كل مرة بعدم أهلية الحكم السعودي بإدارة هذا الملف خصوصاً لأن رجال الشرطة الدينية السعودية (المطاوعة) يمنعون الإيرانيين من القيام ببعض الشعائر التي تشير الى مغالاة في ممارسة الطقوس الدينية، وهو ما تدعوه السلفية بالبدع.

مسيرات ايرانية في مكة عام 1987
في الواقع كان هناك تنافس حاد بين طهران والرياض منذ وصول الخميني إلى السلطة لأن السعودية بما تحمله من موقع ديني بحكم وجود الكعبة وقبر الرسول على أرضها فإن ذلك يجعل منها قطباً سياسياً مؤثراً في العالم الإسلامي ذا الأكثرية السنيّة. ولعب ظهور إيران على الساحة الإسلامية- العربية بشعاراتها الثورية الفضفاضة وحديثها المتكرر عن تحرير القدس، دوراً في نشوء صحوة إسلامية سنيّة متشددة كردة فعل على الشعارات الفارسية الشيعية والتي اعتُبِرت استفزازية تهدد موقع المملكة كمرجعية لمعظم المسلمين السنة في العالم.
كان العام 1987 منعطفاً سيئاً في تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية التي كانت تمر دائماً في عمليات مد وجزر وتجمد. إذ حدثت اشتباكات عنيفة في موسم الحج يوم 31 يوليو/ تموز 1987 في مكة بين مجموعة من الحجاج الشيعة -غالبيتهم إيرانيون- وقوات الأمن السعودية. المصادر الرسمية أكدت مقتل 402 شخصاً في هذه الاشتباكات منهم 275 حاجاً إيرانياً و85 شرطياً سعودياً و42 حاجاً من جنسيات أخرى.
كانت أحداث حج مكة في العام 1987 مؤشراً خطيراً لما تنويه طهران من إحداث فتن في الأرض المقدسّة عند جميع المسلمين، خالقة الذرائع من أجل تسليط الضوء على أخطاء النظام الملكي وإظهار عجزه عن القيام بحماية هذه المقدسات. لذلك كانت في كل موسم حج تنظم من خلال حجاجها مسيرات تحت عنوان "البراء من المشركين" بالمعنى السياسي، فيما يفصل القيّمون على المملكة بين آداء الشعائر الدينية والشعارات السياسية.
بعد عامين من هذه الحادثة في العام 1989 حدث انفجاران في مكة، فيما أكدت التصريحات الرسمية أن المتهمين بالتفجير تلقوا تعليمات من قبل وكيل المرجعيات الشيعة في دولة الكويت محمد باقر المهري وبالتنسيق مع ديبلوماسيين إيرانيين في السفارة الإيرانية في الرياض للتدبير للتفجير.  
في ما كانت السلطات الإيرانية تستغل مطالب إجتماعية وثقافية ودينية  لبعض الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان في شرق المملكة، بغية تحويل هذه المطالب إلى مطالب سياسية، وتوظيف هؤلاء الناس في حربها الباردة مع السعودية، كانت تتم بين حين وآخر اعتداءات إرهابية على المصالح السعودية وعلى الديبلوماسيين والسفارات والقنصليات ومكاتب التمثيل الديبلوماسي ومكاتب الطيران التابعة للمملكة العربية في مختلف دول العالم من قبل أفراد و جماعات مسلحة مرتبطة بإيران، بحسب ما أشارت معظم التحقيقات والتصرحيات السعودية.
ووصلت المكيدة الإيرانية إلى حد اختراق صفوف الدول الخليجية بتطويع قطر التي تتشارك مع إيران بأكبر حقل غاز في العالم يسميه الايرانيون "حقل جنوب بارس" والقطريون "حقل الشمال" (احتياطي الغاز القابل للاستخراج من حقل الشمال يفوق 900 تريليون قدم مكعّب قياسي). وانكشف ما كان مستوراً من ألاعيب دارت بين النظام الإسلامي والإمارة الخليجية التي تناغمت مع طهران فدعمت الحركات الإسلامية السنيةّ وعلى رأسهم "الإخوان المسلمون" الذين سيطروا على قناة "الجزيرة". لعل اللعبة قديمة بين الجانبين بدأت منذ كان الصحافي التونسي المتشيّع سياسياً غسان بن جدو مراسلاً لقناة "الجزيرة" في طهران، مروراً بتغطية قطر لكل حروب "حزب الله" مع إسرائيل وفي الداخل اللبناني ودعم الدوحة لإعمار جنوب لبنان وغزة، ورعايتها الاتفاق بين اللبنانيين بعد احتلال "حزب الله" لبيروت في العام 2008، وصولاً إلى لعبة توزيع الأدوار بين الجانبين على خلفية الأزمة السورية وما نتج عنه من مشاريع لتسليم الحكم للإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس وليبيا بمباركة أميركية وتركية. كذلك كانت الحرب السورية ملتقى للتيارات السنية والشيعية المتشددة وبدعم قطري إيراني كان يمثل في الظاهر عداوة شرسة بين الدولتين وفي الواقع كان مجرد سيناريو لتحقيق برامج عمل تتعلق بسيطرة أكبر مافيات الغاز في العالم وهي روسيا وإيران وقطر. لقد شاركت جميع التيارات التي دعمتها قطر وعلى الجانب الآخر التيارات التي دعمتها إيران في تدمير سوريا وافشال العديد من خطط الثوار في بعض المناطق السورية، من دون المساس بالنظام الذي حمى كيان إسرائيل لمدة أربعين عاماً.
والتناغم بين الإخوان وايران قديم منذ تسلم الخميني الحكم، رغم مرور العلاقة بين الجانبين بحالات مد وجزر وحرارة وبرودة، إلا أن مخطط تحقيق الدولة الاسلامية وتطبيق الشريعة على الطريقة الإخوانية لا يختلف عن صورة نظام ملالي إيران إلا لجهة الاختلاف  الفقهي المذهبي. هذا التناغم كان قد عبّر عنه الخميني حين كان يفتخر بتأثره بسيد قطب ومن قبله أبو الأعلى المودودي أصحاب نظرية "حاكمية الإسلام". وما هذه الإزداوجية في العلاقة الطيبة بين قطر وإيران والتي عادت لتظهر بوضوح أكثر بعد الأزمة بين الدوحة وكل من الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة، إلا صورة طبق الاصل عن براغماتية الملالي الذين لا يرون مشكلة في علاقة قطر مع إسرائيل من خلال المكتب التمثيلي الإسرائيلي في الدوحة، أو من خلال استضافة قناتها لمسؤولين إسرائيليين. فالمشاريع الدينية التي تسعى للسيطرة السياسية ترضي إسرائيل كدولة يهودية ترى في أي دولة دينية أخرى مبرراً لوجودها واستمرارها.  




الحلقة الرابعة
رسم الهلال الشيعي بتدمير الشام وحُكم لبنان
جاءت ثورة السوريين ضد نظام آل الأسد لتغيّر مسار الأحداث العالمية في خضم الربيع العربي. فمن كان يراهن على التغيير في مصر وتونس وليبيا واليمن لم يكن يضع سوريا على جدول أعماله. لقد بدت الثورة السورية بعفويتها بمثابة تجاوز للخطوط الحمر ليس فقط للإيرانيين الذين يريدون من سوريا قاعدة متقدمة لوجودهم على البحر الأبيض المتوسط، بل أيضاً للأميركيين وبعض دول الغرب التي كانت مرتاحة للوضع المستقر في الجولان المحتل من إسرائيل منذ أكثر من أربعين عاماً في ظل حكم آل الأسد.
أصبحت سوريا بين فكي كماشة: من جهة الإسلام المتشدد السني والشيعي والروس والأميركيين من جهة أخرى. التقى دور التنظيمات السنيّة مع دور "حزب الله" والتنظيمات الشيعية المدعومة من إيران على تدمير سوريا وإجهاض ثورتها المحقّة. فلعبت "داعش" و"النصرة" وبعض التيارات السلفية والإخوانية الدور السلبي الذي صوّر الشعب السوري المطالب بالحرية والكرامة ورغيف الخبز، كمجموعات إرهابية هدفها تقويض الأمن وتهديد المنطقة برمتها. لذلك أصبح التدخل الإيراني مقبولاً من الأميركيين والروس والإسرائيليين الذي وافقوا على التنسيق مع هذه القوى مع بقائهم مسيطرين على الوضع بالتدخل العسكري المباشر كلما تجاوز "حزب الله وإيران" الخطوط الحمراء المرسومة لهما دولياً. 
وعلى غرار ما فعل المالكي في العراق قامت قوات سوريا الأسد بتسليم مناطق شاسعة في شرق وشمال سوريا وقرب دمشق وبعض مناطق الغرب إلى "داعش" واشترت مثلها مثل تركيا وبعض دول المنطقة النفط بأسعار رخيصة من التنظيم الإرهابي إضافة الى تهريب الآثار والكنوز تحت ستار غبار تدميرها. أصبحت عاصمة "الدولة الإسلامية" مدينة الرقة في شرق سوريا امتداداً للموصل العراقي. وحقق التنظيم خلال أربع سنوات من هيمنته على النفط والمناطق الاستراتيجية أهدافاً عديدة للنظام ولإيران من خلفها. ودخلت روسيا بكل ثقلها لتضرب المعارضة في الصميم بحجة قتال "داعش" مع انه لم يتم فتح أي معركة مباشرة مع التنظيم الإرهابي إلا حين أصبحت سوريا بنظر العالم "بريئة من دم القتلى" وأصبح كل ما فعلته يأتي في سياق "محاربة الإرهاب" فتم في الأخير إنزال الستارة عن مسرحية تراجيدية دفع الشعب السوري كما الشعب العراقي ثمنها، بينما كان "الدواعش" الحقيقيون يبتسمون للكاميرات في نهاية العرض.
سوريا تحت الأنقاض


كان دور "حزب الله" الى جانب عشرات التنظيمات الشيعية الأخرى واضحاً في تعزيز الفرز الديموغرافي على أساس مذهبي تمهيداً لجعل المناطق الحدودية مع لبنان شيعية وأصبحت هذه القوى قوى إحتلال للأراضي السورية بكل معنى الكلمة.
وحول الانفاق العسكري الإيراني في سوريا تتفاوت التقديرات بين 6 و 20 مليار دولار أميركي سنوياً، بما في ذلك مبلغ 4 مليارات دولار لتغطية التكاليف المباشرة ودعم الميليشيات التي تعمل لمصلحة إيران.
وكان النتيجة غير النهائية لهذا الاحتلال كم هائل من القتلى بين القوات: 473 إيرانياً على الأقل و583 أفغانياً و135 باكستانياً، فضلاً عن 1268 مقاتلاً من الشيعة العراقيين. ومن هذه الميليشيات منظمات عراقية مثل: منظمة بدر، حركة النجباء، عصائب أهل الحق،  كتائب حزب الله، كتائب الإمام علي، سرايا الخراساني، كتائب سيد الشهداء، لواء ابو الفضل، حركة الابدال، وعدد من المجموعات الصغيرة الأخرى. ومن أفغانستان لواء "فاطميون"، ومن باكستان لواء "زينبيون". إضافة الى "حزب الله" اللبناني.

لبنان قاعدة إيرانية
"حزب الله" لبنان الذي تأسس في بداية الثمانينات هو المُنسّق الأساسي للنشاطات الإيرانية في المنطقة العربية. هو الذي يقدّم المشورات العسكرية ويدرّب عناصر من تنظيمات عديدة شيعية وسنية وغيرها من باب المندب حتى نيجيريا في أفريقيا ومن البصرة وصولاً حتى المنامة تحت شعارات "ممانعة المؤامرات الغربية" و"تحرير فلسطين". الشعار الكاذب الذي يداعب مشاعر المسلمين في العالم، في حين لو كانت إيران جادة في تحقيق هذا الشعار لما صرفت مليارات الدولارات وضحّت بمئات الشباب على مذبح أطماعها في الوطن العربي. فلو كانت إيران دفعت ربع ما دفعته من ثمن ضخم للدفاع عن نظام الأسد لكانت حررت فلسطين حقاً.
"حزب الله" الذي استمد قوته من الدعم الإيراني غير المحدود مالياً وتسليحياً والغطاء السوري بحكم سيطرة نظام دمشق على لبنان، أصبح دولة ضمن الدولة اللبنانية، بل قد يكون أقوى من الدولة بما استطاع أن يفرضه على المسؤولين اللبنانيين من قرارات قد لا تصب في مصلحة الشعب اللبناني.

بدأ "حزب الله" مقاومة مشروعة ضد إسرائيل التي احتلت أراضي لبنان الجنوبية لمدة عشرين عاماً، خاض خلالها مواجهات كانت محل إعجاب معظم اللبنانيين والعرب ومحبي الحريّة في العالم وتوجت بالتحرير في العام 2000. لكن النقطة الخطيرة في الموضوع هي أن ما قامت به سوريا من فتح المجال أمام الحزب للعمل بحريّة ومنعها التيارات المقاومة الأخرى من القيام بدورها في التحرير، طرح علامات استفهام كثيرة كانت تجابه بالتخوين والعمالة مع أن المقاومة هي حق لكل لبناني.

تبين أن إيران كانت تعمل مع سوريا منذ بداية سيطرة الملالي على النظام، من أجل خلق قوة عسكرية شبيهة بالحرس الثوري الإيراني في لبنان. وقامت سوريا بقص أجنحة أو إضعاف أو إزالة كل من يمكن أن ينافس هذه القوة من قوى إسلامية سنية وحتى شيعية غير موالية للولي الفقيه، وقومية وفلسطينية كانت فاعلة على الساحة اللبنانية. وكان الحزب قد بدأ سلفياً متشدداً يرفض المشاركة في السلطة والانتخابات ويعتبرها منافية لتعاليم الإسلام، لكن منذ الانتخابات اللبنانية البرلمانية الأولى بعد الحرب في العام 1992 صار الحزب براغماتياً يتحول ويتغير بسياساته تبعاً لفتاوى خامنئي و"مراجع التقيلد العظام" الذين يعملون لمصلحته. حتى الضاحية الجنوبية والمناطق التي يسيطر عليها "حزب الله" في البقاع تسود فيها تجارة المخدرات والحشيش بغطاء من "المراجع العليا" في الحزب، ومن خلفها نظاما سوريا وإيران. أصبحت زراعة الأفيون والحشيش وصناعة المواد المخدرة على أنواعها تتم بحماية هذا الحزب الذي يمول العديد من عملياته وجرائمه بأموال هذه التجارة، وهو الحزب الذي كان دائماً يقدّم نفسه كحركة تقويّة طهرانية. لقد أصبحت الضاحية التي يسميها الحزب بخزان المقاومة عبارة عن مدخنة للنراجيل والمواد المخدرة، فيما تقوم سيدتهم إيران بتسهيل تهريب المخدرات الأفغانية عبر إقليم سيستان بلوشستان لنشرها بين الشباب في دول الخليج والعالم، ومعروفة بقية قصة الحزب مع تجارة المخدرات في بعض دول أميركا اللاتينية. ودائماً لدى "مراجع" ولاية الفقيه حجج وذرائع لتحليل هذه التجارة الممنوعة دولياً والمحرمة إسلامياً بإجماع الأئمة، فهم يعتقدون أن نشرها في دول الغرب جزء من معركة الأمة مع "المستكبرين الكفار" وكذلك دول الخليج وشبابها هم جزء من هذه المنظومة التي تسعى دولة الملالي لإبادتها. طبعاً هذه الذريعة لا يمكن قبولها باي شكل حيث يتم قتل جيل كامل فيه الكثير من المسلمين أيضاً، بالسموم البيضاء والرايات السوداء.

بعد تحرير أجزاء كبيرة من جنوب لبنان في صيف العام 2000، والتي كانت تحت الإحتلال الإسرائيلي، ظهر "حزب الله" قوة سياسية مؤثرة استغلت انجازاتها في الميدان لتفرض على الشعب اللبناني برنامجها الخاص والذي هو في المحصلة مخطط إيراني لا يتعارض مع مصالح دمشق. شارك الحزب الأقطاب الآخرين عمليات الفساد المستشري في السلطة اللبنانية المدعومة من الاستخبارات السورية، وقام كغيره بتغطية التجاوزات والسرقات التي يقوم بها أتباعه وحلفاؤه. وبعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري كشّر "حزب الله" عن أنيابه المذهبية أكثر وبات يتصرّف كطرف حريص على تمرير كل ما يمكن أن يخدم النظامين السوري والإيراني حتى لو اضطر للتصرف بسفور على أن لبنان مجرد مطية لتحقيق الأهداف وليس وطناً نهائياً كما يؤمن به معظم أبنائه.
ثم احتل "حزب الله" وحلفاؤه بيروت في العام 2008 بقوة السلاح وتحت أعين عناصر الجيش اللبناني، لفرض قراراته على الحكومة. حتى عندما كان يحاور الأطراف الأخرى كان يتفاوض وفق إسلوب وضع المسدس على طاولة المفاوضات. فما يملكه هذا الحزب ويعلن عنه من أسلحة حربية ضخمة لا يملكه أي طرف لبناني بما فيه الجيش الوطني. لذلك كانت تشكيلات النواب والحكومات تأتي ملائمة لهذا المعسكر الذي يسمي نفسه بالممانع. ولعل أخر تجليات الديموقراطية اللبنانية المدعومة بالاستبداد الإيراني والقمع السوري هي تعيين ميشال عون رئيساً للبنان وتسمية ذلك انتخاباً. الواضح أن مسار هذ العملية "الانتخابية" وما سبقها من فراغ في هذا المنصب الأساسي على مدى سنتين -بسبب تغيّب نواب الحزب وحلفائهم عن جلسات الانتخاب التي كانت في كل مرة تلغى- كان يصب في مصلحة إيران بالدرجة الأولى. والحديث عن تدخل إيران في لبنان لا تتسع له عجالة كهذه بل يستحق عدداً من المجلدات. يكفي أن تظاهرة واحدة قام بها بعض الشيعة المعارضين لسياسة ولاية الفقيه أمام سفارة طهران في بيروت  خرجت بقتيل وعدد من الجرحى على أيدي حراس السفارة ومرتزقتهم من الحزب "المقاوم"، في حين يتظاهر اللبنانيون باستمرار أمام السفارة الأميركية في عوكر من دون سقوط ضحايا على أيدي الحراس الأميركيين "الشياطين". مفارقة حقيقية ومزعجة حين نضطر لإجراء مقارنة بين "الشيطان الأكبر" و"الجمهورية الإسلامية الإيرانية". يدي الحراس الأميركيين



  

الحلقة الخامسة

أحلام طهران التوسعيّة من اليمن "التعيس" إلى فلسطين الجريحة
دمار في اليمن


امتدت طموحات جمهورية الملالي من فلسطين التي دغدغت بشعاراتها أحلام الشباب العربي والإسلامي وصولاً إلى اليمن الرحم الذي أنجب قبائل العرب، فتحول هذا البلد الفقير البائس الذي مر بالعديد من المصائب على مر عقود الى يمن تعيس، بعدما كان يسمى باليمن السعيد. ولو كانت إيران فعلاً تنوي تحرير فلسطين لما استهلكت طاقاتها المالية وقدراتها البشرية ومرتزقتها في العالم العربي في حروب عربية –عربية من شأنها جعل الدولة اليهودية في أفضل حال من الأمان والاستقرار للمرة الأولى منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي.

اليمن التعيس
 اليمن السعيد الذي أنهكته الحروب والنزاعات القبلية والسياسية على مدى عقود فجاء الحوثيون المدعومون من إيران ليطلقوا على جسده الطلقة الأخيرة، لعلها طلقة الرحمة أو طلقة لتجدد العذاب. اليمن في المفكرة الإيرانية هو موقع استراتيجي يفيد الإيرانيين في حربهم الباردة ضد السعودية ويحقق لهم أهدافاً جيوستراتيجية في باب المندب والقرن الإفريقي. بمعنى التوسع في كل الدول العربية والإفريقية، الحساسة في الشرق الأوسط.
لهذا عمل الإيرانيون بشكل كثيف وسط اتباع المذهب الزيدي (هو مذهب شيعي لكنه ليس إثنا عشرياً كما شيعة ايران). لكن بدر الدين الحوثي (والد زعيم الحوثيين الحالي عبد الملك) كان في نهاية التسعينات قد سافر إلى طهران وأقام بها عدة سنوات وخضع لغسل دماغ عقائدي إذ تأثر بالخميني والنموذج الإيراني واعتقد بإمكانية احياء الخلافة/الإمامة الزيدية في اليمن. كذلك أقنع الإيرانيون الرئيس السابق علي عبدالله الصالح الذي ينتمي للمذهب الزيدي أيضاً بالتحالف مع الحوثيين لكن نهايته كانت على أيديهم بعدما كشف مخططات إيران في بلاده. في الوقت نفسه كان الإيرانيون يدعمون تيارات جنوبية يمنية، يبدو أن دورها في تنفيذ مخططاتهم قد بدأ مع تحرك الجنوبيين ضد السلطة الشرعية خلال الأيام الماضية، بعدما عجز الحوثيون عن تحقيق ما يصبون اليه وما تصبو اليه إيران رغم صواريخهم الفارسية التي تستهدف مدناً سعودية بما فيها العاصمة الرياض.
تأسست ميليشيات "أنصار الله" الحوثية في العام 1997 بأمر من الحكومة الإيرانية لتكون نسخة من "حزب الله" اللبناني. وبالتالي أصبح بعض الزيدية في اليمن المعروفين تاريخياً بقربهم من أهل السنة وعلاقتهم الوطيدة بالسعودية، بمثابة حصان طروادة إيراني داخل الجزيرة العربية حيث الرحم الذي ولدت منه قبائل العرب.
لقد دخلت إيران الشيعية الصفوية إلى كل بيت عربي تحت شعار "الوحدة الإسلامية" وتحت شعارات "محاربة أعداء الأمة" و"تحرير القدس" ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين، فشقّت صفوف أحزاب وتيارات واشترت شخصيات دينية ومؤسسات من كافة المذاهب والأديان لتحقيق سياساتها. ولعبت دور حامية الأقليات في وجه السنّة في الوقت الذي أقنعت فيه بعض السنة أنها تحمل إسلاماً إصلاحياً يعيد النظر في التاريخ ورواياته. فزرعت الشك بمصداقية شخصيات إسلامية تاريخية شاركت في صناعة تاريخ العرب والإسلام مثل صحابة الرسول، ونشرت الكراهية لهم ووصلت انتقادات ايران المذهبية حتى بيت النبي محمد للإساءة الى زوجته عائشة، وهذا ما يعتبره المسلمون السنّة فوق النقد والتجريج.

بالفعل أيقظت إيران الفتنة التاريخية التي كانت بين المسلمين وأدخلتها الى كل بيت عربي أو إسلامي وجعلت هناك عداوات حتى داخل بعض العائلات بنشر التشيّع وتقديم هذا المذهب على أنه مذهب "سفينة النجاة" بمعنى التكفير المبطن للآخر. حتى شعارها عن الوحدة الإسلامية لم يكن سوى شعاراً للإختراق وممارسة سياسة التشيّيع الشبيهة تماماً بممارسة التكفير. وقد كان خليفة الخميني الراحل حسين منتظري الذي عزله الأول قبل وفاته وجعله تحت الإقامة الجبرية متهماً إياه بالخيانة، هو من أطلق "أسبوع الوحدة الإسلامية" الذي بات يُنسب إلى الخميني في ما بعد.

فلسطين الذريعة والضحيّة
فلسطين
حتى أنها اخترقت بعض الفصائل الفلسطينية مثل "حركة الجهاد الإسلامي" التي شقتها عن "حماس" ومن ثم استطاعت استيعاب "حماس" الإخوانية" تحت جناحها مستغلة غياب دعم عربي إسلامي سني للمقاومة الفلسطينية. وأكثر من ذلك ساهمت بتشييع بعض الفلسطينيين في قطاع غزة وأسست لهم تنظيماً باسم "حركة الصابرين"، كما فعلت تماماً في العديد من الدول العربية من ضمنها دول شمال أفريقيا ومصر. وكانت طهران دائماً تلعب على التناقضات بين حركة "فتح" والحركات الفلسطينية الأخرى الإسلامية والوطنية على حد سواء وبين السلطة والفصائل المعارضة لها.

لقد تصرفت "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" مع العرب دائماً وفق قوميتها الفارسية ومذهبها الشيعي ففيما كان بعض العرب يحتجون عند الخميني حول تسمية إيران للخليج بالفارسي، أجابهم لنسميّه بالخليج الإسلامي وننهي الخلاف. لكن في الواقع كان هذا الجواب هو أحد ممارسات الإيرانيين الديبلوماسية التي تأتي دائماً مصحوبة بابتسامة خبيثة من دون أن يفوا بوعودهم. هكذا ظل الخليج فارسياً في إعلامهم ومدارسهم وعلى ألسنة مسؤوليهم وفي خرائطهم ولم يكن الحديث عن إسلامية الخليج سوى لذر الرماد في العيون. هذا هو التشيّع الصفوي الذي يتميز عن التشيع الحقيقي للإمام علي بانه تشيّع يحمل في جذوره صراعات التاريخ المذهبي، ويجعل من الطقوس والروايات الأسطورية أساساً لتعالميه، ويغالي في حب وتقديس آل بيت النبي ويستخدم التقيّة لتمرير سياساته ومخططاته. هذا ما يؤكد عدم سعي إيران لتصدير لغتها وثقافتها الى العالم العربي بل لتصدير مفاهيمها حول الإسلام المغلوط الذي يسميه الخميني "الإسلام المحمدي الأصيل" وفي هذا العنوان شيء من العنجيهة واحتكار الدين والتاريخ بما يعني تماماً التكفير.
لقد فتحت الأحداث التي تشهدها إيران منذ الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2017، عيون المراقبين على العديد من الأزمات التي يعيشها العالم العربي منذ وصول الملالي الشيعة المتشددين إلى السلطة بعد إطاحتهم بحكم الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979. وبدا أن عامل تمويل نظام الملالي للحروب وإثارة الفتن في المنطقة كان السبب الحقيقي وراء إندلاع الاحتجاجات على غلاء الأسعار وتفشي البطالة في طهران والعديد من المدن الإيرانية التي باتت ترزح تحت مشكلات الفقر والجوع، فيما تنام جمهورية الملالي على أكبر ثروة نفطية وغازية في المنطقة.


 نُشر في موقع "جنوبية" على حلقات في شتاء العام 2018

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"شريعة المفاسد".. محاكمة من خارج حقل الميتافزيقيا

عطوي يتحرّر في «شريعة المفاسد»

هل "ستحرّر" إيران فلسطين؟!