هكذا تكلم نيتشه: "أنا لست إنساناً.. أنا ديناميت"



معمر عطويعلى الرغم من مرور 117 عاماً على رحيله لا يزال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844-1900)، حاضراً بقوة في ساحة المطارحات الفلسفية، ولا تزال أفكاره تطرح إشكاليات واسعة وعميقة حول علاقة المفهوم الفلسفي بالنزعات الفكر- سياسية وتحققها في الواقع. إذ نشرت مجلة "فلسفة" الألمانية عدداً خاصاً غنياً بالمناقشات والإطروحات التي تتناول حياة وأفكار الفيلسوف المثير للجدل، سيما أن العدد صدر في شهر آب 2017، والموافق لذكرى وفاته ( 25 آب 1900).

العدد الخاص من مجلة "Philosophie" حمل عنواناً جذاباً هو بحد ذاته محل نقاش: "هكذا تكلم نيتشه"، على غرار عنوان كتاب الفيلسوف نفسه "هكذا تكلّم زرادشت".
الفيلسوف المجنون  لطالما وُصف الفيلسوف والشاعر الألماني بالعنصرية تارة وبالجنون أخرى وبالغرور غالباً، ففي الوقت الذي حظي فيه بمعجبين ومؤيدين لأفكاره كان هناك من ينتقده بقوة ومن يتهمه بأنه واضع الأسس الفكرية للنازية الهتلرية التي ولدت بعد وفاته بسنوات قليلة. هذا إلى جانب إطروحاته الجريئة حول موت الله وولادة الإنسان الخارق "ٍSuperman"، أو Übermenschen (بالألمانية)، والتي أثارت بالدرجة الأولى حفيظة الكنيسة وانتقادات المتدينين.
تبدو الإشكاليات المطروحة حول مقولات نيتشه في مقدمة العدد، بجملة لصاحب "مولد التراجيديا"، "لست إنساناً، أنا ديناميت"، بحسب ما يُنقل عن كتابه "Ecce homo" الذي نُشِر بعد وفاته بثماني سنوات (والتعبير هنا لاتيني يعني "هو ذا الإنسان"؛ هو مصطلح استخدم من قبل بونتيوس بيلات في ترجمة الفولغات من إنجيل يوحنا (19: 5) عندما عرض المسيح للناس وهو متوج بالشوك). "ومولد التراجيديا" كتبه في مدينة بازل السويسرية حيت توطدت علاقته بالموسيقي ريتشارد فاغنر الذي كان له أثر كبير على كتابات الفيلسوف في الفن والجمال والموسيقى. وربما لهذا خصصت المجلة مقالاً الصحافية الألمانية المشتغلة بالفلسفة كيرستين ديغر، تحت عنوان " فاغنر كوالد وعدو"، يتناول العلاقة المعقدّة بين الفيلسوف والموسيقي، مستعينة بأرشيف اليزابيث فورستر شقيقة نيتشه، والذي احتفظت به مقاطعة فايمار. "أنا مهرّج"يرد تعبير نيتشه في فقرة يقول فيها: "أنا أعرف مصيري. وستتأسس مجدداً على إسمي ذكرى أمرهائل- أزمة، كأن لم يكن هناك شيء على الأرض، صدمة عميقة للوعي، قرار مثير ضد كل ما كان يُعتقد به كمقدس حتى الآن. أنا لست إنساناً، أنا ديناميت. – ومع هذا كله ليس بي شيء من رجال الدين - الديانات شؤون الغوغاء، وأنا بحاجة لغسل يدي بعد أي اتصال مع رجال الدين.يضيف: "لا أريد "مؤمنين" أعتقد أنني خبيث جداً حتى أؤمن بنفسي، لا ينبغي علي أبداً التحدث إلى الجماهير ... لدي خوف بغيض بأن يأتي يوم يطوبني فيه أحدهم قديساً: على المرء أن يُخمّن، لهذا نشرت هذا الكتاب. هذا من أجل دفع الضرر عني.  لا أريد أن أكون قديساً، بل أُفضّل أن أكون مُهرّجاً... ربما أنا مُهرّج ... وعلى أي حال، أو بالأحرى - لأنه لا يوجد هناك أي قديس كذوب حتى الآن قال لي الحقيقة. لكن حقيقتي رهيبة، إذ يسمون الكذبة حقيقة حتى الآن". لقد أشعل مُلهِم الفلاسفة الوجوديين سجالات كبيرة على مستوى الفكر وعلى مستوى القول الفلسفي وعلى مستوى الشعر، فكان بحد ذاته حالة عصيّة على الفهم بالنسبة لكثيرين وحالة مثيرة للإهتمام أو للإعجاب عند آخرين، ونموذج للكاتب المغرور أو المبدع المجنون عند البعض. فما أثاره الفيلسوف آنذاك من إطروحات اعتبرها البعض جنونية أو عنصرية، لا يزال يجد صداه في مقولات فلسفية حديثة وفي مناقشات فكرية تعمل على تحديث فهم هذه الإطروحات باستمرار لتلائم الواقع الحالي والأسئلة المطروحة إزاء فلسفة العلم والتكنولوجيا وما توصل إليه الإنسان من اختراعات وابتكارات تؤكد انه قادر على أن يكون ذاك "السوبرمان".
 إنسان القطيعأسئلة عديدة تتضمنها محاور العدد، من قبيل "ماذا تعني الحياة حقاً في عالم علماني؟"، "كيف يمكن تجاوز فداحة القول أن الله قد مات؟"، "كيف يمكن أن نصل إلى "الحقائق" حول العالم، حين أمكن لكل شخص أن ينظر أو يفكر فيه فقط من خلال كيانه المحدودة؟".يُسلّط المحور الضوء على فكرة الـ"Übermenschen"، معتبراً أن "تأملات نيتشه حول تطور الإنسان إلى "سوبرمان" تبدو فعالة في ضوء النقاش حول براعة الهندسة الوراثية اليوم، ولا شك أنه بالطبع يؤدي الى (مقولة) سيادة العرق عند القوميين الإجتماعيين (النازيون).
في ما يتعلق بالزمن الحالي يبدو نقد الفيلسوف الألماني للديموقراطية، من خلال حديثه عن غباء الجماهير وإنسان "القطيع"، مسوّغاً فكرياً للأنظمة الديكتاتورية في القرن العشرين.لعل أبرز المناقشات الواردة في هذا العدد الخاص بنيتشه هي لمفكرين وكتاب معاصرين، مثل ريديغر زافرانسكي، آندرياس أورز زومر، ونصوص أصلية لكل من صاحب نظرية التطور، العالم النمساوي سيغموند فرويد والفيلسوف الفرنسي صاحب نظرية "أركيولوجيا المعرفة" ميشال فوكو وأحد أعمدة مدرسة فرنكفورت الفلسفية في ألمانيا تيودور آدورنو.يتساءل زافرنسكي في مقابلة معه تحت عنوان "قليل من السوبرمانية لا يضر"، ضمن العدد المذكور، عن سبب كون نيتشه جذاباً بالنسبة لكثيرين. يرى الفيلسوف الألماني أن  نقد نيتشه الأساسي للديموقراطية هو فرصة جيدة لجعل اعتقادنا بها موضع شك وبالتالي تجديدها مرة أخرى.ويعتقد زافرنسكي أن نيتشه لم يكن مفكراً محترفاً ولا فيلسوفاً جامعياً (بالمعنى الأكاديمي) وفق معايير هذا الزمن. هو بالأحرى فيلسوفاً اعتمد في تشكيل فكرته على الوجودية، مضيفاً "أردت القول إنه كان فنان أفكار وتفكيره هذا يقود نحو المأساة".
يركّز الأستاذ الجامعي ذو النزعة الشيوعية على عنصرين رئيسيين بنى عليهما نيتشه دراسته حول مولد التراجيديا من روح الموسيقى، مشيراً إلى الصراع بين نمطين يمثلها الأخوان ديونيسوس وأبولو إبنا زيوس في الإسطورة اليونانية. ديونيسوس هو اله الخمر والسِكر والنشوة والموسيقى أما أبولو فهو اله المنطق والعقل وسيد الحلم الفرداني الجميل.لقد كتب نيتشه "ولادة التراجيديا" حين كان استاذاً في جامعة بازل في سويسرا في العام 1872، وأهداه الى صديقه الموسيقي فاغنر. وفيه يستنتج نيتشه أن الإغريق لم يكونوا متشائمين وأن الحديث عن التضاد بين التفاؤل والتشاؤم هراء سخيف. معتبراً أن مولد التراجيديا هو عملية قلب لكل القيم.من قتل الله؟حول رؤية نيتشه الأخلاقية وتناوله لجدلية العلاقة بين"أخلاق السادة وأخلاق العبيد" تضمن العدد أبحاثاً ونقاشات لكل من آندرياس وزومر وفرويد وفريتز براتهاوبت. أبحاث هي ثمرة الظواهر النفسية مثل "تأنيب الضمير" والإستياء. إذ يعتبر نيتشه في نظرته الفوقية العنجهية، أن الأخلاق هي من صنع الفقراء، والضعفاء حين يفقدون كل وسائل الصراع والمقاومة، فيلجأون إلى حيلة الأخلاق لكي يحصلوا بها على المنافع من الأقوياء.  الإرادة  والسُلطةلعل تمجيد نيتشه للحرب يحمل منذ زمن استقبالاً تفاعلياً لأفكاره. لقد تعلّق النازيون  بأفكار نيتشه إلى حد العبادة. لدرجة أن أستاذ الفلسفة الألماني برنارد، هـ، ف، تاورك واضع دراسة بعنوان "نيتشه والفاشية" عام 1989، يعتبر أن الفاشيين الإيطاليين والنازيين الألمان يبدون أقل عنصريّة من نيتشه.في مبحث نقدي كتبه في العام 1943 (نشر في هذا العدد الخاص) يعتبر الفيلسوف الشيوعي الهنغاري جوج لوكاس أن نظرية نيتشه هي عبارة عن "آيديولوجيا إمبريالية"، واصفاً الفيلسوف الألماني بأنه ملهم الرجعيين، وهو في فكره هذا يشكل "استجابة لكل مراحل الإمبريالية ليس فقط في ألمانيا"، بل في الكثير من البلدان. رواد مدرسة فرانكفورت ماكس هوركهايمر وتيودور آدورنو كتبوا عن "ما وراء التنوير". أما ميشال فوكو فكتب عن "الحقيقة كخطأ". وتضمن النقاش بحث بعنوان "أقنعة مثقوبة" لجيل دولوز.ثمة مقابلة مع أستاذ الفلسفة العملية في جامعة هومبولدت- برلين فولكر غيرهارت تحت عنوان:"النهاية لا تحمل الكلمة الأخيرة". خصوصاً أن فولكر كرّس نفسه لفكر نيتشه مراراً. يتحدث في هذه المقابلة عن أهمية "العودة الأبدية" في فهم نيتشه والتفسيرات المختلفة جداً لهذه الفكرة في القرن الـ20.بدوره، يتساءل  أستاذ السياسة النظرية في جامعة لايبزغ مارتن سار عن "أي تأثير لنيتشه على المظاهر المختلفة لما بعد الحداثة"، متحدثاً عن "افتراضات زائفة" في ما يتعلق بما بعد البنيوية وقضية كيفية تمكن العلوم من التوصل الى الحقيقة "ما بعد الواقعية".ومن الأبحاث الهامة التي حملها عدد مجلة "فلسفة" الخاص،"الثقافة هي الشعور بالذنب" لسيغموند فرويد، "هذه الحياة هي ثقافة" لتوماس مان، "الفيلسوف كشاعر" لسارة كوفمان، "الفن ينظم الفوضى"، حديث مع ريناتي ريشكه، "من العقل الى الجنون"، حديث مع كريستوف تركي، "فكرة خطيرة" لكارل ياسبرز، إضافة الى أبحاث أخرى لا مجال لهذه العجالة أن تستوعبها كما تضمن العدد الجديد من "فلسفة" نصوصاً عديدة للفيلسوف الألماني المثير للجدل.  "أفق" نوفمبر 2017 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"شريعة المفاسد".. محاكمة من خارج حقل الميتافزيقيا

عطوي يتحرّر في «شريعة المفاسد»

هل "ستحرّر" إيران فلسطين؟!