بين «سياسة الاحتواء» و«التهديد الرادع».. استراتيجيات أميركية متحوّلة تجاه روسيا

معمر عطوي
كان لقاء النورماندي العابر بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما، والروسي فلاديمير بوتين، خير شاهد على حساسية العلاقة بين قطبين بارزين، إذ وقفت الأزمة الأوكرانية كمحور تجاذب يشكل امتداداً لسياسة طويلة الأمد حاولت خلالها واشنطن دائماً أن تلوي ذراع موسكو، من دون أن تحقق مبتغاها رغم تغيير استراتيجياتها وطريقة إدارة الخلافات وقواعد الاشتباك مع خصم عنيد في أكثر من بقعة متوترة في العالم.
وخلافاً لما كانت عليه الحال في حقبة «الحرب الباردة»، لم تعتمد الولايات المتحدة استراتيجية موحدة تجاه روسيا منذ تفكك الإتحاد السوفياتي، فالمقاربة السياسية والعسكرية والاقتصادية تجاه الدولة الكبرى اللدود كانت تختلف وفق تغيّر المصالح والمعطيات على الأرض.
وظلت الولايات المتحدة تعيد النظر في سياساتها تجاه روسيا وفق المراحل والمعطيات الدولية، وأيضاً وفق رد فعل «الدب الروسي» على تحرّشات العم سام، بدءاً بـ«سياسة الاحتواء»، التي اتبعها الرئيس السابق جورج بوش، حين كانت الولايات المتحدة تحسب نفسها القوة الأحادية في العالم، وانتهاء بسياسة «التهديد الرادع» التي يتبعها اليوم الرئيس باراك أوباما، في وقت يتحدث فيه الاقتصاد أكثر من السياسة.
وفي وقت تنجلي فيه السياسات الأميركية تجاه روسيا على خلفية الأزمة في أوكرانيا، فإن الصراع الحالي يكشف ان الاستراتيجية الأميركية الحالية باتت مختلفة تماماً عن استراتيجيات عدّة اعتمدها «العم سام» لتركيع «الدب الروسي»، من دون أن ينجح في ذلك، سواء عبر سياسة الإستمالة واستغلال الضعف في حقبتي الرئيسين ميخائيل غورباتشوف (1988-1991) وبوريس يلتسين (1991-1999)، أو من خلال عودة «سياسة الاحتواء» في زمن المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الإبن (2001-2009)، وصولاً الى سياسة التردد أو «التهديد الرادع» التي يعتمدها باراك أوباما (2009- 2017) اليوم.
ولا يمكن الفصل بين هذه السياسة وبين ما آلت اليه خطط واشنطن الأخيرة في أعقاب اكتشاف مخزونات هائلة من النفط والغاز المُسال والصخري في الولايات المتحدة، حيث بات الاقتصاد هو العنوان الأبرز لسياسة البيت الأبيض، الذي يمم وجهه شطر شرق وجنوب آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، معتمداً سياسة «مرنة» أو مترددة مع خصومه في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز وبحر البلطيق، تقوم على «التهديد الرادع» حسب تعبير خبير السياسات الدولية في جامعة «كولن» الألمانية توماس ياغر، في مقال نشرته صحيفة «فوكوس» في برلين.
من المفيد البدء من مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وما بعدها، حين أعاد الرئيس جورج بوش - الأب في عهده (1989-1993) تعريف حلف شمال الأطلسي «الناتو» باعتباره «أداة سياسية للاستقرار الأوروبي» بدل كونه قوة مواجهة عسكرية مع الاتحاد السوفياتي سابقاً. بموجب هذه الشروط وافق غورباتشوف على توحيد ألمانيا ضمن «الناتو»، اضافة الى انضمام دول كانت في حلف «وارسو» المؤيد للسوفيات آنذاك الى «الأطلسي» بعد انتهاء ما كان يُسمى بحقبة «الحرب الباردة».
بدوره ابلغ الرئيس بيل كلينتون (1993-2001) يلتسين أن توسيع الحلف «الأطلسي» سيتوقف عند دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن الكتلة السوفياتية، فيما كانت المجر والتشيك وبولندا، من بين أوائل الدول التي دخلت «الناتو».(!)
لكن مع عودة بروز موجة المحافظين الجدد في أميركا، وخصوصاً مع انتخاب بوش الإبن رئيساً، بدأت الإدارة الأميركية برسم سياسات جديدة للعالم، تقوم على عقيدة ميتافيزيقية، تعمل على قيادة الكون وفق الأهداف الإنجيلية - الصهيونية والسير بالتاريخ نحو نهاياته. مثّل هذه السياسة كانت في بداية عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان (1981-1989)، لكنه ما لبث ان انقلب عليها في ما بعد.
سياسة الاحتواء
وكانت «سياسة الاحتواء» التي صاغ مبادئها الخبير السياسي الأميركي جورج كينان، في العام 1947 تقوم على فكرة إنشاء سلسلة من الأحلاف والقواعد العسكرية، بهدف تطويق الإتحاد السوفياتي، وعزله، ومنع انتشار نفوذه وتصدير آيديولوجيته إلى الدول المجاورة وغيرها من مناطق العالم.
وأطلق الرئيس الأسبق رونالد ريغان وصف «امبراطورية الشر» على الاتحاد السوفياتي، وجاء بوش الإبن بعد نحو عقد ونيف ليطلق وصف «محور الشر» على دول العراق وإيران وكوريا الشمالية. بيد أن ريغان كان من أصحاب التسويات البراغماتية، بخلاف بوش الإبن، إذ كانت سياسته الخارجية تقوم على ضرورة حظر أسلحة الدمار الشامل سعى اليها من خلال أربعة لقاءات مع الزعيم السوفياتي غورباتشوف.
من هنا كان انقلاب ريغان على مفاهيم المحافظية الجديدة، وجنوحه نحو السلم في معالجة التوتر مع النظام الشيوعي. وكان أول الغيث في هذا الانفتاح قرار الإدارة الأميركيّة في عهده، برفع حظر الحبوب عن الاتحاد السوفياتي.
قيصر الكرملين
مع ذلك لا يمكن فصل السياسة الأميركية خلال العقد الأخير عن شخصية الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، الذي دخل الحياة السياسية من باب الاستخبارات.
ضابط الـ«كي جي بي» في زمن «الحرب الباردة»، مدير الأمن الفدرالي الروسي لاحقاً، الذي تولى اختصاصات رئيس روسيا الإتحادية بالوكالة منذ بداية العام 1999 وانتخب في 26 آذار العام 2000 رئيساً لروسيا، هو «قيصر الكرملين» الذي خرج من بيئة معادية للغرب، فعمل على معالجة الفساد، وإعادة النمو، داخلياً، وصولاً الى سياسة خارجية صلبة تؤهل بلاده لأن تعود أحد قطبي العالم.
وهنا يقول المفكر منير شفيق «لعل من حسن طالع بوتين أن حكم الولايات المتحدة المحافظون الجدد، وهؤلاء ركّزوا على إعادة تشكيل (الشرق الأوسط الكبير)، ما أتاح الفرصة لإطلاق يد بوتين لاستعادة قوة الدولة وتماسك روسيا وإنهاضها حتى تحوّلت في سبع سنوات إلى دولة كبرى من جديد».
«على أن إدارة بوش عادت لتستفز روسيا من خلال جورجيا وأوكرانيا واستقلال كوسوفو ومشروع الدرع الصاروخيّة، الأمر الذي أوصل إلى الرد العسكري الروسي القوي على جورجيا. وبهذا أمكن القول إنهم أحرجوها حتى أخرجوها»، حسبما يرى شفيق في مقاله «روسيا: أحرجوها حتى أخرجوها»، في صحيفة «الوقت» البحرينية، في 23 آب العام 2008.
ويختصر الكاتب جون بيلغر الإستراتيجية الأميركية في شرق أوروبا، بأنها تهديد بحرب عالمية جديدة ومغامرة لا ينبغي تبريرها، مشيراً إلى أن دور واشنطن في أوكرانيا اليوم مختلف لجهة تداعياته على الغرب، فللمرة الأولى منذ حقبة ريغان، تهدد أميركا بأخذ العالم إلى حرب، وأن آخر «دولة عازلة» تحد روسيا اليوم هي أوكرانيا «تخضع للتمزيق على أيدي قوى فاشية أطلقتها أميركا والاتحاد الأوروبي»، بحسب ما أورد في مقاله في «الغارديان». ويستنتج الكاتب أن الغربيين الآن يدعمون «نازيين جدداً» في بلد ساند فيه النازيون الأوكرانيون في الماضي أدولف هتلر.
ويذهب بيلغر أبعد من ذلك في نقد السياسات الغربية، إذ يرى أن أوكرانيا تحولت الى متنزه لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إي»، حيث زار مديرها جون برينان، شخصياً كييف، مع عشرات من «الوحدات الخاصة» من الـ«سي آي إي» والـ «أف بي آي»، حيث يقومون بانشاء «هيكلية أمنية» للإشراف على «هجمات وحشية» ضد كل من يعارض انقلاب شباط، مشيراً الى إحراق الراديكاليين الأوكرانيين مبنى في مدينة أوديسا في جنوب أوكرانيا، ومقتل العشرات من مؤيدي روسيا.
«التهديد الرادع»
ومن جهته يرى البروفسور توماس ياغر، في بحث نشرته صحيفة «فوكوس» أن كسب حرب عسكرية بالنسبة لواشنطن سيكون مكلفاً جداً ويصعب تحقيقه. ولأن القوة العسكرية تبقى الأساس في السياسة العالمية الأميركية، فإن الإدارة الأميركية تعتمد اليوم سياسة «التهديد الرادع» التي يصفها ياغر بأنها «أقل تكلفة وهادفة في مجال العلاقات المالية الدولية».
ولعل هذه السياسة هي أحد مكونات استراتيجية العم سام تجاه الدب الروسي، إذ ترتكز على الرقابة المالية والعزل من خلال العقوبات التي لم تصل بعد الى مرحلة «نازفة» على حد وصف وزير الخارجية جون كيري، رغم التهديد المتواصل المقرون بتحريك جماعات موالية للغرب في جنوب وشرق أوكرانيا ودعمها من بعيد.
(السفير)
تعليقات