اسطنبول تتنشق السياسة على أعتاب الانتخابات




معمر عطوي              

لا تبدو مدينة اسطنبول مجرد «قبلة لسائح يعشق جمع الصور»، بل هي غارقة حتى أذنيها، مثل معظم المدن التركية، في المشهد السياسي المثير للنقاش على أعتاب انتخابات بلدية أواخر شهر آذار الحالي تسبق الانتخابات الرئاسية.

تظهِر لك المدينة، الواقعة على ضفة البوسفور وساحل مرمرة، بمعالمها التاريخية عبر حقبات متتالية من حكم السلاطين وصولاً إلى مرحلة حكم أتاتورك (1923-1938) وما تركه من بصمات على دولة مدنية عصرية تحاكي جارتها أوروبا في تعاليمها العلمانية.
ربما يعتقد الأتراك أن مصطفى كمال (1881 ـ 1938)، الذي أطلق عليه البرلمان التركي بعد وفاته بخمس سنوات لقب أتاتورك (أبي الأتراك)، هو الأسطورة الوحيدة التي لا يمكن التشكيك بتعاليمها وإنجازاتها. فأتاتورك هنا خط أحمر، لا يمكن تجاوزه، رغم كل هذه السيادة الواسعة للتدين وتمكن حزب ذي جذور إسلامية من الحكم منذ 12 عاماً، ورغم تراجع نفوذ العسكر الحامي الأساسي للدولة.
لعله الرمز المتبقي أمام ما تعيشه البلاد اليوم من ردة الدين على الدين، بسبب تشرذم التيار الإسلامي الحاكم، وحدّة الكباش الصعب بين جناحيه؛ الأول يمثله حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، والثاني حركة «خدمة» ويتزعمها الداعية المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولين.

المواطن التركي الذي شهد انتعاشة اقتصادية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بعد أزمة خانقة أورثتها له الأحزاب العلمانية والقومية، قدّر لرئيس بلدية اسطنبول السابق (أردوغان) دوره في رفع مستوى النمو الاقتصادي، لكنه لم يغفر له محاولات الالتفاف على علمانية الدولة، ومحاولات تحويل الجمهورية الكمالية إلى ما يشبه الخلافة الإسلامية التي تقيّد الحريات وتقمع التظاهرات وتتدخل في شؤون الدول المجاورة الى مستوى انتقال الأزمة الى عقر داره، كما هو حاصل في الملف السوري.
هكذا يرى المواطن عثمان أوغلو، حين يسمع تعليقات سياسية تمجّد رئيس الحكومة الإسلامي «الذي عرف كيف استغل قضية الهجوم الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة ليظهر بصورة الزعيم الإسلامي»، معتبراً ان هذه الخطوة «محاولة استرجاع مجد السلطنة الضائع في بلاد العرب». لكنه يتساءل هنا «كيف كان بلال أردوغان يدير أعمالاً تجارية بين اسرائيل وتركيا حتى في ظل الأزمة بين أنقرة وتل أبيب؟ ألا يستحق ذلك التمعن في حقيقة موقف أردوغان؟».
لا ينكر عثمان أن لحزب العدالة والتنمية فضلاً في النهضة الاقتصادية في البلاد». بيد أنه يؤكد أن كل هذا «من واجب الحكومة ولا منّة لها علينا، وأي حزب أتى كان ليقوم بما قام به العدالة من مشاريع تنموية ومنشآت وبنى تحتية وغيرها».


المستنقع السوري
يستدرك الشاب الثلاثيني الذي يبدو مهتماً بالشأن السياسي كما معظم الأتراك ليقول إن كل ذلك بدأ يتلاشى، فسياسة «صفر مشاكل» لم تعد قائمة، مشيراً الى «تورط» أردوغان في المستنقع السوري وانعكاس الأزمة على الحدود الجنوبية الغربية على الداخل التركي، «إن كان من حيث عدد اللاجئين السوريين الذي تخطى المليون، أو من خلال العبء الأمني والاقتصادي الناتج من إقامة عشرات السياسيين والضباط المنشقين عن النظام السوري، وتحول تركيا الى ممر للإرهابيين العالميين.
في مقهى متواضع قديم في منطقة أكسراي، كان رجلان يلعبان طاولة الزهر، حين فتح أحد الزبائن «موضوع الساعة»، بحسب وصفه، مشيراً بذلك الى المحادثة الهاتفية بين أردوغان ونجله الأكبر بلال والتي تثبت ـ في حال صحتها - تورط القيادي الإسلامي بتلقي رشى وفساد.
يغمز أحد اللاعبين رافعاً إبهامه إلى أن أردوغان رجل جيد، لكن منافسه يرد عليه متسائلاً «وبلال؟»، هنا يحتدم الجدل باللغة التركية، والذي يتبين منه أن قضية فضيحة الفساد التي يتّهم بها أردوغان وحكومته، تشغل الرأي العام التركي الى حد كبير.

أردوغان وغولين

يؤكد يلماز، العامل في أحد المطاعم، أن الأشرطة التي وثّقت مكالمات أردوغان مع ابنه بلال هي «صحيحة مئة في المئة» ودليله على ذلك «3 أشرطة وليس شريطا واحدا».
ويعتبر الشاب الآتي من أزمير، أن الإسلام ليس سوى «غطاء لممارساتهم البشعة»، قائلاً «غولين رجل أميركا وأردوغان صديق لحلف الأطلسي وكلاهما لديه مصالح اقتصادية ونفوذ وأموال لا تُعدّ ولا تُحصى، فما الفارق بينهما؟ الأول أخ للثاني».
بيد أن سائق التاكسي الملتحي، الذي انبرى للدفاع عن أردوغان، يبدو مقتنعاً تماماً بأن الرجل بريء من كل تهمة، ملقياً كل المسؤولية على غولين «الماسوني الذي يستغل الدين لأهداف شخصية».
ويستعرض السائق الستيني العديد من الأسباب التي يراها مانعة لأن يكون رئيس الحكومة فاسداً بقوله: «هو مسلم مؤدّ لواجباته الدينية، حافظ للقرآن الكريم، يتقن اللغة العربية. ساهم في وضع حد للفلتان الأخلاقي بتقييد حرية بيع الكحول (منع بيعها في المحال بعد العاشرة) وتحسين وضع الاقتصاد ومساعدة الإخوة المسلمين السوريين». رأي تعتقد به شريحة واسعة من الأتراك المتدينين.


انحياز كردي
لكن في تقسيم، وفي أحد المقاهي القريبة من حديقة «جيزي» التي أثارت محاولات الحكومة تحويلها الى مشروع تجاري صدامات واسعة في الصيف الماضي، تحدث الشاب الكردي بحماسة عن أردوغان، معتبراً أن المفاضلة بين حزبه «العدالة والتنمية» وحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، تجعل كفة الأول راجحة بالنسبة اليه. لكنه حين يفاضل بين كل الأحزاب التركية وحزب السلام والديموقراطية الكردي، ينحاز بوضوح إلى الأخير.
ساحة تقسيم لا تزال ذلك الميدان الذي يُجسّد إصرار الشعب التركي على منع تحويل تركيا الى خلافة إسلامية، هكذا ترى إحدى الفتيات اللاتي شاركن في تظاهرة يوم المرأة في 8 آذار الحالي في حديقة جيزي.
تؤكد الفتاة العشرينية أن «تركيا ستبقى علمانية ولن تعود الى الخلافة. لن نكون ايران أخرى في المنطقة أو السعودية».
أما صاحب أحد المقاهي في منطقة فاتح، فيرى أن الفساد في السلطة يتعلق بالأشخاص لا بأحزاب أو عقائد معينة، مشيراً الى أن أردوغان وخصمه غولين يستغلان الدين لمصالحهما الشخصية.
ففي المستوى نفسه الذي ينبري فيه مدافعون عن «هوية تركيا الإسلامية» للدفاع عن دور حزب العدالة والتنمية في قص أجنحة العسكر والتخفيف من القوانين والقيود التي تحد من ممارسة الشعائر الدينية والمدارس القرآنية، يرى أنصار حزب الشعب الجمهوري الوجه الآخر من الأردوغانية التي تعيد الجمهورية الحديثة الى خلافة رجعية استبدادية تمنع الحريات وتقيد الكثير من التسهيلات التي ساهمت في نهوض القطاع السياحي في بلد قائم أصلاً على هذا القطاع.
تبدو اسطنبول على أبواب المعركة الانتخابية ساحة خصبة لترويج الشعارات والبرامج الحزبية، فالسيارات المتنقلة التي تحمل صور مرشحي الأحزاب تجول الشوارع صادحة بالأغاني الوطنية والحزبية، بينما سيتمكن 25 حزباً سياسياً من المشاركة في الانتخابات المحلية المقررة في الثلاثين من شهر آذار الحالي.

(السفير)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"شريعة المفاسد".. محاكمة من خارج حقل الميتافزيقيا

عطوي يتحرّر في «شريعة المفاسد»

هل "ستحرّر" إيران فلسطين؟!