ألمانيا والعالم الإسلامي: الاستيعاب بدل المواجهة

معمر عطوي*
لم تدفع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول2001، الحكومة الألمانية إلى ردّة فعل أمنية عنيفة ضدّ المسلمين الذين يتجاوز عددهم على أرض بلاد الجرمان أكثر من 4 ملايين نسمة، معظمهم من الجالية التركية، بل حثّت هذه الأحداث الدموية دوائر القرار على إنشاء مؤسّسات وبرامج ومشروعات تصبّ جميعها في مصلحة التقارب الإسلامي– الغربي، وتعزّز البحث لفهم الإسلام من خلال رؤى مختلفة.


اتبعت ألمانيا منذ البداية، حتى في العهود الكولونيالية، سياسة إرسال بحاثة ومستشرقين إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي بهدف فهم هذه المجتمعات ودراسة تركيبتها، وكانت خطوات الحكومة الألمانية، خصوصاً بعد 11 سبتمبر خطوات استيعابية تعزّز اندماج المسلمين في المجتمع الألماني الذي يقتدي بفلاسفته وشعرائه أمثال يوهان فولفغانغ غوته (1749-1832)، المعروف بنظرته الإيجابية إلى الإسلام وانفتاحه على الثقافة العربية، خصوصاً من خلال رائعته الأدبية "الديوان الشرقي الغربي".

الإسلام باللغة الألمانية
فيما كانت فرنسا تمنع ارتداء النقاب والحجاب في المدارس والجامعات، كانت ألمانيا أكثر تسامحاً مع المرموزات الدينية، لدرجة أنها أدرجت مادة التربية الإسلامية في مناهج بعض المدارس، لتقديم صورة عن الإسلام أسهم في صوغها دعاة ورجال دين وباحثون في الفكر الإسلامي، يتميزون برؤية منفتحة ومعتدلة. وباتت كليات بعض الجامعات الألمانية تخرّج دعاة ورجال دين منعاً لاستفحال ظاهرة الفوضى التي أدّت إلى انتشار الفكر الإقصائي على أيدي دعاة متشدّدين تمكّنوا من اختراق أسوار " الرايخ"، وباتت لهم حيثيّاتهم الاجتماعية والتربوية.
ومن المعروف أن ولاية شمال الراين وستفاليا، هي أول ولاية ألمانية بدأت منذ العام 2012 في تدريس الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين في نحو 44 مدرسة ابتدائية، باللغة الألمانية. والمفارقة أن الولاية نفسها، وفي العام نفسه، شهدت مواجهات بين إسلاميين متشدّدين ويمينيّين ألمان متطرفين.
عن هذه الخطوة تحدثت إلى موقع "قنطرة" وزيرة التربية والتعليم في الولاية، سيلفيا لورمان، قائلة إن "هذا العرض جاء استجابة للحراك والمبادرات التي شهدتها الولاية بخصوص سياسة الاندماج والمشروعات التي تمّ إطلاقها في هذا الإطار. فقد تمّ في العام2011 إبلاغ الحكومة الألمانية برغبتنا في اتخاذ مبادرة تكون بمثابة مؤشر على المساواة والاعتراف بالقيم الإنسانية للمواطنين من أصول مهاجرة، وإتاحة الفرصة للتلاميذ المسلمين لتعلّم دينهم في المدارس الألمانية، كما هو الحال بالنسبة إلى المسيحيين واليهود".
وتضيف الوزيرة: " لتحقيق ذلك، كان من الواجب إيجاد شركاء يمثلون المسلمين الألمان لدى المؤسّسات الحكومية. ففي السابق كان هذا مشكلاً ظلّ مطروحاً لسنوات عدّة"، مشيرةً إلى تعاون مع مجلس تنسيق مسلمي ألمانيا "كشريك مؤقت يتولّى مسؤولية الإجابة عن الأسئلة الدينية".

شرق غرب
وقد يكون مشروع "شرق غرب" المتماهي مع رؤية غوته للحوار بين الحضارتين، أحد تجليات تعزيز الفهم المتبادل من خلال استضافة أديب أو شاعر عربي في ألمانيا لمدة شهر لدى زميل ألماني، وبالعكس. وفي نهاية البرنامج يقوم كلّ من الأديبين العربي والألماني بكتابة ديوان أو رواية أو أيّ عمل أدبي عن رحلته هذه وانطباعاته عن البلد الآخر.
وإذا نظرنا إلى برامج المؤسّسات الألمانية الناشطة في الوطن العربي، لوجدنا كماً هائلاً من المشروعات التي تدعم باحثين عرباً وألماناً يقومون بالعمل على كتابة تقارير وأبحاث ودراسات مُعمّقة حول التنمية والتطوّر، والأوضاع السياسية، وعلاقة المجتمع بالمفاهيم الدينية وانعكاسها على الأعراف الاجتماعية، وما إلى ذلك من موضوعات تطلّ على المسرح والسينما والدراما والفنّ التشكيلي والورش المهنية وفنّ الكولاج..إلخ.
وقد نجد منذ سنوات طويلة هذا الاهتمام بالفنون والثقافة في الوطن العربي من خلال مجلة "فكر وفن" الفصلية،fikrun wa fann، والتي تصدر باللغات العربية والإنجليزية والألمانية والفارسية عن معهد غوته.
لعل أبرز موضوعات العدد الأخير التي تتعلق بما يجري في الوطن العربي: "الأدب والديموقراطية: الجزائر نموذجاً"، و"حاملو الحقائب، اليد الحمراء والفهود السود- نظرة على الجزائر بعد خمسين عاماً من الاستقلال"، ومقال بعنوان "حركة النهضة في تونس وقابليات حركات الإسلام السياسي للديموقراطية والحداثة". وفي القسم الثقافي ثمة مقال عن الكتّاب العرب في ألمانيا، وعن أيام الأدب العربي في فرانكفورت".
أما مجلة ZENITH فتنشر مقالات وتحقيقات عن العالم الإسلامي باللغتين الإنجليزية والألمانية. وتتضمّن في عددها الأخير محاور عن مسيرة الحوار في تونس والأحداث الدامية في مصر، إضافة إلى ملفات عن المسلمين في ألمانيا.
وبالمناسبة، فإن معهد غوته المنتشر في العديد من العواصم العربية، يقدّم برامج دورية تحتضن نشاطات ثقافية وأفلاماً وأعمالاً فنية عربية وألمانية في كلّ من ألمانيا وبعض الدول العربية. إضافة إلى ما يقدمه من برامج تعليمية للغة الألمانية بوسائل حديثة.
أما مجلة "نفس" التي تصدر أيضاً بالعربية، إلى جانب الإنجليزية والألمانية، فهي مشروع يقدّمه المعهد الألماني للعلاقات الثقافية الخارجية، بالتعاون مع "يونيفرسز إن يونيفرس". وهي تقدّم موضوعات عن الفنون والفنانين في الوطن العربي.

مشروعات الاندماج
في إطار السياسة التي تقوم بها برلين لتحقيق اندماج الجاليات العربية في المجتمع الألماني، يتدارس الباحثون وخبراء التربية والتعليم الكثير من المشروعات التي تعزّز هذا الاندماج، وتحافظ في الوقت نفسه على خصوصية كل شخص ومعتقداته. ففيما تتعاظم ظاهرة العنف اليميني المتطرف في الغرب، وخصوصاً على أيدي النازيين الجدد في ألمانيا، تحاول السلطات استيعاب ما يجري عبر ردم الهوة وطمأنة المهاجرين الى أن التطرف اليميني ظاهرة عابرة، وأن مشروعات نسج العلاقات الثقافية والاجتماعية تفوّت الفرصة على المصطادين في الماء العكر.
من هنا جاءت أخيراً فكرة مؤسّسة " الدار" في برلين للمقارنة بين الأمثال الألمانية والعربية في إطار مشروع يهدف إلى تشجيع اندماج العرب في المجتمع الألماني.
فحسبما تذكر "دويتشه فيله" عن هذا المشروع إن "أمثالاً كثيرة يتداولها العرب في حياتهم ولغتهم اليومية على سبيل المثال:"عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة"، و"مطرب الحيّ لا يطرب"، أو "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترشق الناس بالحجارة"، هذه الأمثال المذكورة لها مقابل بالمعنى نفسه في اللغة الألمانية وإن اختلفت الصياغة اللغوية، وهذا هو موضوع هذا الشهر من مشروع الاندماج العربي -الألماني الذي تشرف عليه مؤسّسة "الدار" التي تهدف إلى رعاية الأسر العربية وتعمل في المجال الاجتماعي والثقافي منذ ما يقارب الثلاثين سنة.
وتنقل "دويتشه فيله" عن رئيسة مؤسسة "الدار" رينيه أبو العلا، قولها:" اخترنا موضوع الأمثال، لأنها تعبّر عن المواقف الاجتماعية، فالمشروع هو مشروع ثقافي يُعرّف الألمان والعرب عن جوانب في ثقافة الآخر".

وجهة الطلاب السعوديّين
على المستوى الأكاديمي، ثمة برامج تعاون عديدة بين جامعات ألمانية وعربية، خصوصاً بين برلين والقاهرة، ففي آخر الأخبار المتعلقة بهذا الموضوع، أقيمت ندوة علمية رفيعة المستوى، مع بدء برنامج ماجستير جديد مشترك بين الجانبين الألماني والمصري.
وذكر الموقع الألماني للإعلام التابع لوزارة الخارجية على الإنترنت، أنه في إطار برنامج الشراكة من أجل التحول الديموقراطي الذي تموّله وزراة الخارجية الألمانية، تدعم الهيئة الألمانية للتبادل العلمي برنامج "ماجستير الحفاظ على التراث وإدارة المواقع التاريخية والتراثية"، حيث يتمّ وضع الخطط المشتركة للبرنامج والدراسة فيه باللغة الإنجليزية بين كل من جامعة كوتبوس – زنفتينبرغ التقنية في ولاية براندنبوغ وجامعة حلوان المصرية وكذلك المعهد الأثري الألماني.
قد تكون السياسة الألمانية متميّزة عن غيرها من سياسات الدول الغربية الكبرى. ففي حين سارعت هذه الدول إلى التضييق على العرب والمسلمين، وباتت تتعاطى مع كل شخص يأتي من الشرق الأوسط على أنه متهم بالإرهاب، كان لبرلين سياسة متوازنة جعلت الثقافة عمودها الفقري والحوار الحضاري أسلوباً ذكياً في استيعاب الآخر ومساعدته في تحقيق اندماجه في المجتمع الألماني. لذلك أصبحت الجامعات الألمانية في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من صعوبة لغة الجرمان، مقصداً للطلاب العرب عموماً والخليجيين خصوصاً.
ففي تقرير نشره المركز الألماني للإعلام الشهر الفائت نقلاً عن"دويتشه فيله"DW العربية، أن "الازدياد الملحوظ في أعداد الطلبة السعوديين الدارسين في ألمانيا في السنوات الأخيرة يثير تساؤلاً حول ما إذا كانت ألمانيا ستصبح في يوم ما وجهةً دراسية بديلة عن الولايات المتحدة وبريطانيا للطلبة السعوديين!".
ويشير التقرير إلى أن تخصّصات مثل الهندسة الميكانيكية، والهندسة الكهربائية، وتقنية المعلومات، والهندسة المدنية، والطب التي تُدرِّسها الجامعات الألمانية، استحوذت على اهتمام الطلبة السعوديين في السنوات الأخيرة، ما زاد من أعدادهم بشكل ملحوظ.
وينقل التقرير عن الطلبة السعوديين الدارسين في ألمانيا، قولهم إن براعة ألمانيا في المجال الهندسي، والريادة في التكنولوجيا، كان لهما الدور الحاسم في اتخاذهم قرار الدراسة في الجامعات الألمانية وليس في غيرها من جامعات الدول الأنجلوساكسونية التي كانت القبلة الدراسية للطلبة السعوديين على مدى السنين.
فهل يكون مشروع "شرق غرب" المتماهي مع رؤية غوتة للحوار بين الحضارتين، أحد تجليات تعزيز التفاهم المتبادل؟
*كاتب لبناني
نشرة "أفق" عن مؤسسة الفكر العربي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"شريعة المفاسد".. محاكمة من خارج حقل الميتافزيقيا

عطوي يتحرّر في «شريعة المفاسد»

هل "ستحرّر" إيران فلسطين؟!